الافتتاحية الدولار المتهاوي.. دروس وعبر
تستعر الأزمة الاقتصادية في النظام الرأسمالي العالمي، وتظهر معالمها بالدرجة الأولى في المؤشرات المالية التي يعاني منها الاقتصاد الأمريكي تحديداً، وإذا كان انفلات أسعار الدولار والنفط والذهب هو أهم الأعراض الخارجية لما يعاني منه الاقتصاد الرأسمالي العالمي اليوم، إلا أن هذه الأعراض بجوهرها هي تعبير عن مرض عضوي عميق لم يعد ممكناً علاجه ضمن هذه المنظومة وسياساتها المتّبعة.
ويحذر المهتمون من أن حجم هذه الأزمة قد تجاوز بكل المقاييس أزمة 1929 ـ 1930 الشهيرة التي كان يُضرب بها المثل، ويضيفون أن الحلول الاقتصادية لها قد استنفدت، وأصبحت مستحيلة، وأن الدولار أي الاقتصاد الأمريكي قد فقد العرش الذي تربع عليه عشرات السنين بعد الحرب العالمية الثانية.. والسؤال الذي يشغل بال الكثيرين هو: كم هي درجة خطورة المرض؟ والواضح أن خطورة الوضع الذي وصل إليه الاقتصاد الأمريكي يشابه وضع المريض الذي تقترب حرارته من درجة 42 مئوية، ولم تعد تفيد معه خافضات الحرارة، لأن أصل المرض متأصل وعضوي وعميق، وكل التساؤلات تذهب إلى ما بعد ذلك، ومصير الذين يحومون تاريخياً حول الدولار متمسكين بأهدابه... ويجري التنبؤ بأن حجم وعمق الأزمة الحالية سيكون له مفعول «الدومينو» على كل الاقتصادات المرتبطة بالدولار والاقتصاد الأمريكي، مثلها مثل متسلقي الجبال المربوطين بحبل واحد لإنقاذ بعضهم بعضاً إذا تطلب الأمر، ولكن في حال سقوط أعلاهم وأقواهم فإنه سيجرّهم جميعاً معه نحو الهاوية..
لذلك يمكن القول إن الأزمة الحالية عميقة بأبعادها التاريخية، وهي ليست مؤقتة أو عابرة كأخواتها السابقات، بل ستحمل معها المنظومة الرأسمالية العالمية بمجملها.. التي ستصبح مضطرة من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه، للاستيلاء عنوة على ثروات الآخرين عبر الحرب لتأمين الأوكسجين الضروري لرئتيها اللتين تعانيان من نقص تهوية شديد..
أي أن هذه الأزمة بطبيعتها العالمية لن تبقي أحد بمنأى عنها، ولكن حجم ضرر كل طرف سيحدده حجم ارتباطه وتشابكه بالسوق الأمريكية وبالدولار الأمريكي، فهناك أطراف ستهوي مع طليعة المتهاوين، وهناك أطراف لن تهوي معهم لأنها غير مربوطة بتلك الطريقة بهم، ولكنها ستصاب ببعض الأضرار التي يمكن إصلاحها. بكلمة أخرى سينشأ وضع فريد من نوعه هو أن حجم ضرر أي اقتصاد وطني سيتناسب عكساً مع حجم الارتباط بالسوق الأمريكية، وكذلك السوق الرأسمالية العالمية...
من هنا نشكر الظروف التي لم تسمح لفريقنا الاقتصادي بدمجنا بالسوق العالمية للحاق بركب العولمة المتحرك، بالطريقة والسرعة التي كان يريدها.. فالبورصات ستتهاوى، وبورصتنا والحمد لله قيد الإنشاء بعد، ومنظمة التجارة العالمية بشروطها المجحفة التي كان يفرضها أقوياء الأمس لم نلجها بعد رغم كل التحضيرات لهذه العملية، واقتصادنا الوطني مازال قطاع الدولة واقفاً فيه على رجليه رغم الجراح التي أثخنته في الفترة الأخيرة نتيجة التآمر عليه والنية بخصخصته، وسيتحول موضوعياً إلى درع يحمي اقتصادنا الوطني من أكثر الآثار سلبية لموجات الانهيار الخارجية.. والمفارقة أن تلك الاقتصادات التي تتهم بالجمود والتخلف لأنها التزمت بثوابت وطنية فرضتها ظروفها الخاصة ستكون الأقل تضرراً، بل ربما الرابح الأكبر من الأزمة المستفحلة في مجموع الاقتصاد الرأسمالي العالمي..
إن ما يجري يجب أن تستخلص منه الدروس الجدية والسريعة لإعادة النظر بإحداثيات التوجه الاقتصادي كله، فسياسات الفريق الاقتصادي هي رجع الصدى لسياسات تلك الدول التي يتهاوى اقتصادها اليوم.. وعلينا أن نرسم سياستنا الجديدة على أساس الواقع الذي يتكون مجدداً بحيث نحمي استقلالنا الوطني والاقتصادي ونؤمن الظروف الملائمة لعيش كريم للشعب وتطور حقيقي للاقتصاد، وفي ذلك ضمانة لكرامة الوطن والمواطن.