الفاتورة السعودية مستنقع يمني
أعلنت قيادة «التحالف العربي» الذي تقوده السعودية في 9/3/2016، عن التوصل إلى «اتفاق تهدئة» على الحدود اليمنية- السعودية، وسط تكهنات أثارتها وكالات الأنباء وبعض الصحف العربية، حول بداية «مفاوضات مباشرة» بين جماعة «أنصار الله» والسعودية، تشمل وقف هجمات الجماعة على المناطق الحدودية، في مقابل وقف القصف الجوي لـ«التحالف» على العاصمة صنعاء..
ما بات مؤكداً على لسان قيادة التحالف ذاته، أن اتفاقاً قد جرى ينص على الهدنة المذكورة آنفاً، أما ما كان مساحة للأخذ والرد، فهو حقيقة المفاوضات المباشرة بين «أنصار الله» والسعودية، والتي إن صحت، فإنها تضاف إلى سلسلة تحركات سابقة أجرتها السعودية، كاتفاق الهدنة الموقع في أواسط كانون الأول من العام الماضي، بهدف تأمين الأرضية اللازمة للخروج من تورطها العميق في اليمن.
في حوار مع صحيفة «نيويورك تايمز» بتاريخ 8/3/2016، أكد الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، أن حلفاء الولايات المتحدة «يأملون جر واشنطن إلى صراعات طائفية طاحنة»، واصفاً بعض الحلفاء في الخليج وأوروبا بـ«القوى الجامحة»، التي تسعى لاستخدام قوة الولايات المتحدة ضد إيران، وأن مصالح بلاده تقتضي الخروج من الصراعات الدموية في الشرق الأوسط، ليعود بعدها بيومين، وفي تصريح لمجلة «ذي أتلانتيك»، بالقول أن «الحرب والفوضى في الشرق الأوسط لن تنتهي، إلا إذا تمكنت السعودية وإيران من التعايش معاً والتوصل إلى سبيل لتحقيق نوع من السلام».
الارتداد إلى الداخل السعودي
هذه التصريحات تعززها وقائع السلوك الأمريكي في الملف النووي الإيراني، والملف السوري مؤخراً، وإن بدا للوهلة الأولى من تصريحات أوباما أن بلاده أصبحت من «دعاة السلام» في المنطقة(!) إلا أن حقيقة السلوك الأمريكي تكمن في بناء استراتيجية تحصيل النفوذ الدولي، وفق الإمكانيات التي تفرضها موازين القوى الدولية الناشئة في السنوات الأخيرة، والتي تقتضي الخروج المنتظم من أزمات الشرق الأوسط، وبأقل الخسائر الممكنة، وتكثيف الحضور السياسي، والعسكري إن أمكن، في مناطق الاتصال بين الصين وروسيا.
يرمي هذا الجزء من واقع الصراع الدولي بظلاله على المنطقة ككل، ومنها على السعودية التي بدأت تستشعر جدية الولايات المتحدة في بحثها عن مصالحها «منفردة»، مستفيدة من الهبَّات المجانية للحلفاء، وحتى على حساب الحلفاء أنفسهم إن اقتضى الأمر. وكانت قد أكدت ذلك قبل شهر تقريباً بوادر التراجع السعودي عن الاستمرار في حرب النفط، ومؤخراً محاولات المملكة إلى جانب تركيا، توريط الولايات المتحدة بعملية عسكرية برية في سورية، وتأريض هذه المحاولات سريعاً، التي من المرجح أن تكون المحاولة الأخيرة من هذا النوع، أي محاولات الحلفاء الإقليميين تحييد واشنطن عن خياراتها الاستراتيجية بـ«القوة».
وعليه، فإن الحرب على اليمن- كما باقي عناصر التورط في المنطقة- تدفع السعودية إلى الخوف من حجم الارتدادات على داخل المملكة نفسها وفي محيطها، لذا، تبحث اليوم في اليمن عن إجراءات تمهد، ولو بالحد الأدنى، إلى الخروج التدريجي من المستنقع اليمني، كونها تدرك ولو بالعموم حجم الخسارة السياسية والاقتصادية المترتبة على حل الأزمة في نهاية المطاف.
حساب التكاليف استحق!
تتقارب أرقام التقارير المرتبطة بالحرب على اليمن، حول خسائر السعودية في هذه الحرب، حيث ناهز عدد القتلى السعوديين الألفين، وأكثر من 5 آلاف جريح، بينما دمر اليمنيون أو عطلوا ما يقارب 450 دبابة مدرعة، وجزءاً كبيراً من هذه الخسائر جرى في المناطق الحدودية، وتحديداً في نجران وجيزان.
وتؤكد تقارير أخرى على أن التكلفة اليومية للعمليات العسكرية بلغت 750 مليون ريال سعودي «حوالي 200 مليون دولار أمريكي»، وتشمل الذخيرة وقطع الغيار، والإعاشة والتموين، أي أن هذه التكلفة وصلت في الأشهر التسعة الأولى فقط إلى 200 مليار ريال «حوالي 57 مليار دولار أمريكي»..!!
وإن كانت هذه الخسائر ملقاة، من الناحية الاقتصادية، على عاتق المنتج الثاني للنفط في العالم، بعد روسيا «حسب إحصاءات عام 2013»، والمصدِّر الأول له، إلا أن حجم العملية العسكرية وتكاليفها الجانبية المتمثلة في تمويل حكومات دول أخرى كالسودان، للمشاركة في العملية العسكرية، أظهرت آثارها التي ما تزال أولية في الداخل السعودي، بعد إعلان وزارة المال السعودية تسجيل عجز قياسي، هو الأكبر في تاريخ المملكة، في موازنة العام 2015، بلغ 98 مليار دولار، وعجز متوقع بقيمة 87 ملياراً في 2016. وهو ما أدى بالتالي إلى إعلان مجلس الوزراء، برئاسة الملك السعودي سلمان، رفع أسعار مواد عدة أبرزها الوقود، بأكثر من النصف، ضمن سلّة «إصلاحات» اقتصادية مالية وهيكلية، لتقليص الإنفاق الحكومي، تعتزم المملكة السير بها.
ويأتي الحديث هنا عن التبعات كونها «أولية» وبالتحديد مادية، على اعتبار أن الخسارة الأكبر والقادمة لا محالة هي في عدم القدرة على التحكم في رسم ملامح اليمن ما بعد الحرب، التي لن ينساها اليمنيون لعقود طويلة، وربما درّسوها في كتبهم لاحقاً، أي أن نموذجاً يمنياً خارج العباءة السعودية، يعني إعادة النظر في وضع منطقة الخليج العربي برمتها، بما يتلائم مع المشهد الإقليمي المتكون ككل، وتحديداً في السعودية.
تكلفة اليمن..
خسائر سعودية مضافة
«الشعب اليمني هم إخواننا وجيراننا، وإذا مرض اليمن فستصيب العدوى دول مجلس التعاون كلها»، هذا التحول اللافت في خطاب وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، مؤخراً، ربما يعكس استشعار أجهزة المملكة السعودية أن الأزمة وانعكاساتها قد وصلت حداً باتت تهدد فيه المملكة ذاتها اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، وربما تكون إحدى نتائجها إجبار السعودية على الرضوخ إلى «الوقائع العنيدة» التي تفرضها موازين القوى الدولية الجديدة فرضاً.
ومن جهة أخرى، تؤكد منظمة «الفاو» في آخر تقرير لها أن 14.4 مليون نسمة في اليمن يعانون من انعدام الأمن الغذائي، بينما أحصى صندوق النقد الدولي هذا الشهر الأضرار المادية في اليمن، وفق إحصائية شملت أربع مدن هي عدن، وصنعاء، وتعز، وزنجبار، بصورة أولية، وانتهت نتائج الإحصاء إلى تقدير نحو 5 مليارات دولار خسارة هذه المناطق فقط.
وبما أن السعودية سوف ترسم خطوط علاقاتها المستقبلية مع اليمن، وفق الإحداثيات الجديدة، فإن جانب إعادة الإعمار والتعويضات للشعب اليمني، سيدفع بشكل أساسي من الخزينة السعودية، كجزء من تطبيع العلاقات اللاحق وتخفيفاً لوطأة الكارثة التي أحدثتها طائرات «التحالف العربي».