معيار «الاعتدال» سورياً!
بعد أن كانت داعش وحدها «فارس الميدان»، عاد إلى الترويج الإعلامي، وبزخم متجدد مصطلح «المعارضة المعتدلة»، وبالتحديد مع بدء العمليات العسكرية الروسية ضد داعش، فأصبح كل هدف تدمره الطائرات الروسية يخص «المعارضة المعتدلة»، حتى ولو كان هذا الهدف مصنعاً للمفخخات، أو حتى كرسي «البغدادي» نفسه، وبالتوازي مع ذلك تراجع الحديث عن داعش وفظائعها.
حين البدء بالعمليات العسكرية لما يسمى بالتحالف الأمريكي ضد الإرهاب، منذ أكثر من عام، كان شبح داعش حاضراً في كل مكان، وكانت قوة لا تقهر إلا بـ «جبروت» التحالف العتيد، مما برر في حينه التدخل بأية طريقة كانت، وفي أي مكان كان من الأرض السورية، ورافق تلك الهوبرة الإعلامية إخراج عدة أفلام ذات لمسات هوليودية، تبرر كل سلوك لقوات التحالف الأمريكي، بحجة «مواجهة» داعش، وبالتوازي جرت في حينه عملية تجاهل واضحة، للمجموعات المسلحة الأخرى، لا بل تم الإعلان رسمياً، عن فشل تدريب ما أطلق عليه «المعارضة المعتدلة» من قبل الولايات المتحدة، في حين كان تمدد داعش يزداد طرداً مع استمرار الضربات الجوية للتحالف المزعوم.
دوامة العنف.
بعيداً عن المنطق الجنائي – من بدأ أولاً - في تحليل أزمات سياسية كبرى كالأزمة السورية، وضمن ظرف إقليمي ودولي استثنائي، يمكن التأكيد على أن قانون الفعل ورد الفعل لعب دوراً، في تجذر العنف البيني في الساحة السورية، وإنه كان بالإمكان تجنب مستوى المشهد الدموي الراهن في البلاد لو تمت إدارة الأزمة بطرق أخرى، وما هو غير قابل للجدل أيضاً هو، أن أوهام «الحسم والإسقاط» عسكرياً مدت ظاهرة العنف على الدوام بجرعات جديدة، حتى فتحت الباب بذلك على مصراعية لتنامي وتبلور الإرهاب الفاشي، وأصبحت أشبه بدوامة تهدد الجميع بالغرق.
لا يستطيع أحدٌ أن ينكر وجود قوى مسلحة على الساحة السورية، لا علاقة مباشرة لها بالتنظيمات الإرهابية، بتسمياتها المعروفة، كداعش وغيرها، لا بل من المعروف أن بعض هذه القوى دخلت في مواجهات مباشرة مع قوى الإرهاب، وأن العديد منها كانت تعلن أنها مع الحل السياسي، ولكن هل يكفي ذلك لتسويق الجماعات المسلحة كلها وبالجملة، لاسيما، وأن بعض تلك القوى تتمول علناً من القوى الإقليمية والدولية التي تدعم داعش ذاتها؟ ويبقى السؤال: ما هي معايير الاعتدال الحقيقية ضمن الإحداثيات الجديدة؟
اذا أخذنا بالتسميات المفروضة على الوعي الاجتماعي بقوة الضخ الإعلامي، ومنها مفهوم «الاعتدال»، فإن فكرة الاعتدال في ظل الوضع السوري الراهن، تعني قبل كل شي القبول الجدي بالحل السياسي، والذي يشكل محاربة الإرهاب جزءاً لا يتجزأ منه، وذلك بالذهاب إلى التفاوض والحوار، دون شرط مسبق من أي طرف كان، على أساس بيان جنيف1، الذي يعني من جملة ما يعني فتح الأبواب أمام عملية التغيير.
حسابات جديدة
لقد بات واضحاً، أن العمليات الحربية الروسية الجوية الفعالة ضد التنظيم الإرهابي، أربكت حسابات الجميع، وفرضت على الجميع - والأمريكي على وجه التحديد - تغيير تكتيكاته، وأدواته، فلم يعد ممكناً الاقتصار على استثمار وجود داعش، للتحكم بمسار الأزمة السورية، ولم يعد كافياً الإمساك بخيوط اللعبة الدائرة في الميدان السوري بكلها، بعد أن دخل الروس بهذا الزخم العسكري غير المتوقع في هذا الملعب، ومن البوابة نفسها، أي، بوابة الحرب على الإرهاب، فضاقت هوامش المناورة الأمريكية التقليدية، ليتم على أثر محاولة إحياء، ما همشته واشنطن أصلاً، لصالح فسح المجال لتمدد داعش، ومحاولة تلميع وجوه قديمة وجديدة من الجماعات العسكرية، ووضعها في مواجهة الروس.