عوامل فشل الفكر السياسي السوري
من حق الشعب السوري أن يعرف الأسباب الحقيقية التي حالت دون التوصل لحل سياسي للأزمة السورية، ومن حقه أن يعرف أبعاد ومرامي السياسات الدولية والإقليمية، ومن شأنه التفكير فيما يراد لوطنه في ضوء مستجدات الأزمة وما فرضته المعارك العسكرية.
إن أية ظاهرة تتطور وتضخ الجديد دائماً، بحكم تفاعل مكوناتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وأشار ابن خلدون إلى علاقات التأثير المتبادل بين مختلف الظواهر وقال: «إن الظاهرة السياسية تتفاعل مع غيرها من الظواهر الاجتماعية»، والفكر السياسي لا يقتصر على تحليل تطور التاريخ الاجتماعي بل هو يعنى بمستجدات الظاهرة، كما أنه ليس مقصوراً على السلطة بل هو نشاط اجتماعي يعكس أبعاد الأنشطة والأهداف للاستراتيجيات السياسية والحلول والأفكار، ويتناول العلاقات بين المكونات الأساسية للدولة وطرائق وسبل وطبيعة وأهداف مختلف القوى السياسية، بما فيها السلطة السياسية وقراراتها، ومدى استجابة سياساتها لمصالح المجتمع. ويعنى الفكر السياسي بالمسائل الأساسية التي تحرك وتحرض القادة والمفكرين والسياسيين، وقد نعى انجلز ماركس بقوله «لقد كانت رسالته في الحياة أن يسهم بطريقة أو أخرى في قلب المجتمع الرأسمالي وأن يسهم بتحرير بروليتاريا العصر».
مخاطر استمرار الحرب
كل ذي بصيرةٍ يلاحظ أن الفكر السياسي السوري السائد فشل في التوصل إلى حل سياسي للأزمة، وقد ازداد الاعتماد على الحرب باعتبارها السبيل لتحقيق الأهداف، لقد أدى استمرار المعارك إلى استبعاد النشاط السياسي لحل الأزمة واحتدمت أزمة الفكر السياسي فأضحى أكثر عطالة، وتنحياً وعزلةً أكثر من أي وقت مضى. وتعمقت ملامح الجديد الذي أنجبته الحرب، واحتلت داعش مساحات كبيرة من سورية، ويمكن القول أن تخمرات اشتداد الأزمة اجتماعياً عمقت الانقسامات الاجتماعية وأعطت دفعة للدعاية الطائفية، تواكب تخمرات تؤدي إلى إنهاء سورية جغرافياً وسياسياً واجتماعياً.
مخاطر التدخل الخارجي
لقد أدى استمرار الحرب وجعلها مهمة استراتيجية - بدل أن يكون الحل السياسي هو الاستراتيجية- إلى تعيمق دور العوامل الخارجية التي تنوعت وتطورت سيلها وقسمت عشرات الدول، وانتقلت مخاطر التدخل الخارجي إلى داخل عشرات الدول، وتراجع دور القضية الوطنية اجتماعياً، وتعززت العلاقات الطائفية، وأصبحت تهدد وحدة وسلامة دول عديدة، وباتت مكشوفة المخاطر التي تنسجها طرائق التدخل الخارجي واستراتيجياتها، وأعلنت العديد من الدول أن أمنها يرتبط بما سيكون عليه الوضع في سورية مستقبلاً، ويعادل ذلك قولاً أكثر وضوحاً ألا وهو: لمن ستخضع أجزاء سورية مستقبلاً، ويستخلص بكل تأكيد أن زيادة دور العوامل الخارجية يحقق نقله من التدخل العسكري إلى التدخل السياسي لرسم الملامح اللاحقة، وبات واضحاً أن المؤثرات السياسية لهذه الدولة أو تلك ترتبط بمدى تدخلها العسكري والاجتماعي والاقتصادي، وبعبارة أخرى فإن العوامل الخارجية في معظمها، مع تصعيد الحرب وضد الحل السياسي، لأنه لا يحقق الاستراتيجيات الدولية والإقليمية، وبعبارة أخرى فإن مؤشرات عديدة تشير إلى أن بعض الدول تريد أن تستمر كي تأتي على أية فعالية وطنية تتوخى وحدة سورية وشعبها وأرضها وحق الشعب في دولة وطنية ديمقراطية.
الأزمة والمبادرات الروسية
نظر البعض إلى الأنشطة السياسية الروسية نظرةً تفتقر إلى بعد النظر السياسي، ولا تتلمس المخاطر التي تهدد الوطن والدولة السورية.
إن التحرك السياسي الروسي لم يجر صدفة أو بعيداً عن رغبة أو فراغ سياسي، لكنه جاء تنبيهاً للسوريين كافه كي يعتمدوا الحل السياسي، وكي يعملوا الفكر السياسي للحيلولة دون الخطر الذي يتكون ويحمل في طياته إنهاء سورية جغرافياً وسياسياً واجتماعياً، إن النشاط السياسي الروسي قد يكون في بعده صرخة لإيقاظ دور الوطنية في المعالجات السياسية وفي اعتماد إنهاء الأزمة، التي تجاوزت مسألة من سيكون الرئيس ومن سيكون رئيس الوزراء وما هي الصلاحيات وغير ذلك، وأصبح جديد الأزمة نتيجة استمرار الحرب، «أن تبقى سورية وطناً موحداً» أم أن الأمور تسير نتيجة الحرب إلى خارطة جديدة للمنطقة، وهو ما تسعى إليه الصهيونية،
إن الأنشطة السياسية الروسية جاءت ضرورة لتنبيه السوريين كافة إلى ضرورة تكريس الجهد والفكر السياسي للحوار بين السوريين ولرفع روح المسؤولية إزاء الخطر الذي وصلت إليه الأزمة. لكن ارتهان الائتلاف للتوجهات المعادية لروسيا كان السبب الأكبر في عرقلة مسار حوار موسكو.
السياسة الأمريكية تكبل الفكر السياسي
دأبت السياسة الأمريكية، ومنذ بدايات الأزمة على عرقلة دور الفكر السياسي والحيلولة دون المعالجة السياسية. ومنذ البداية دفعت إدارة أوباما مختلف الأنشطة السياسية والدعائية نحو موضوعات متقابلة، فكانت موضوعتي «التنحي واللاتنحي» وكانت موضوعتي «الشرعية واللاشرعية» وكانت موضوعة تمثيل الشعب السوري ومصالحه، وعوّم الكثيرون هذ الموضوعة، وبرز أن جهات عديدة في التدخل اخذت بتلك الموضوعة وحولتها إلى موضوعة ميتافيزيقية لا علاقة للشعب السوري بها، ولا يملك الفكر السياسي السبل وتحديد الطرائق الحقيقية التي من شأنها أن تجسد بالوقائع الموضوعية، مطامح الشعب السوري في دولة سورية موحدة دولة وطنية ديمقراطية.
إن إدارة أوباما كانت مع العوامل كلها التي تؤجج الحرب فهي فعلياً لم تتخذ أية تدابير ضد التدخل الخارجي، وشجعت ذلك، وأسهمت به بفعالية، وكانت على علم بكل من يأتي ليشارك بالحرب، ثم إن تلك الإرادة، شجعت التشكيلات التي تسميها إرهابية كلها ويسرت لها تأمين عوامل تنفيذ خططها.
إن التدقيق فيما طرحه الفكر السياسي الأمريكي، يشير إلى أن الشغل الشاغل لذلك الفكر، هو محاصرة الفكر السياسي السوري وتنحيته وتكريس خيار الحرب وتأجيجه، ورغم تبدلات طرأت على الأزمة فإن الفكر السياسي الأمريكي ظل في نطاق الخصائص الميترافيزيقية للفكر السياسي، وظل في نطاق الابتعاد عن الخطط السياسية التي تتطور وصولاً إلى الأهداف النهائية، التي يتطلبها حل الأزمة، وكان ذلك ضرورياً لعملية مزدوجة، يشكل شقها الأول تدمير الجيش السوري، وتنحية الحل السياسي، وتأمين الخطط المتفق عليها مع إسرائيل، ومن جهة أخرى تأمين وتأجيج وزيادة الاعتماد على التدخل الخارجي وإخراج القضية السورية من نطاقها الوطني، ودفعها نحو وضع يتيح الدور الأساس السياسي للقوى الخارجية، وعندها تنتهي المطامح الوطنية وتبتعد نهائياً فكرة دولة وطنية ديمقراطية، وتتحول أجزاء سورية عبئاً على القضايا الوطنية والقومية، وتحقق الصهيونية والإمبريالية ايجاد عوامل موضوعية تنهي الأفكار الوطنية والقومية التحررية، وذلك من أهم ما تريده تاريخياً وراهناً، وبعبارة أخرى يمكن القول الواضح: أن الفكر السياسي للإمبريالية يتطابق مع مكونات الفكر السياسي للصهيونية، وإن إنهاء سورية وطناً موحداً للسوريين هو الطريق للمشاريع الاستعمارية كافة، التي تصفى القضية الوطنية الفلسطينية والنضال الوطني والقومي التحرري، إن الفكر السياسي الأمريكي لا يعني فقط بتصفية سورية جغرافياً وسياسياً واجتماعياً، ويرى فيما يريده لسورية وضعاً يغير جغرافيا المنطقة العربية. وللإمبريالية والصهيونية وغيرهما تاريخ معروف مع الفكر السياسي الوطني والقومي التحرري، قديماً وراهناً، وهو مفصل التقاطع مع المشاريع الامبراطورية العثمانية وغيرها.
اما ثالثة الأثافي فهي: ظاهرة العدوى بالدعاية الأمريكية، وتزايدت وقائع هذه الظاهرة مع تزايد التدخل الخارجي وتعدد أشكاله بما فيها الشكل المباشر، وأخذت الدول المتدخلة تعلن أنها تعرف مصالح الشعب السوري، وهي تعمل على تأمينها، كما أنها تحترم إرادة الشعب السوري وخياراته، وهي تريد سيادته، حتى وصل هذا الشكل من الفكر السياسي الدعائي إلى وقاحة تعلن أنها أدرى من الشعب السوري بمصالحة وحقوقه وتتجاهل مسألة كبرى، وهي تاريخ الشعب وما في صفحاته من مفكرين ومثقفين وسياسيين ومناضلين سوريين، مكنوا وطنهم من التحرر من الاستعمار الكولونيالي وقبله الاستبداد العثماني والمشاريع الامبراطورية.
المصيبة الأساس هي خيار استمرار الحرب بين السوريين
رغم كل تطورات الأزمة ورغم المخاطر النوعية التي أدت إليها الحرب فإن الوقائع اليومية تؤكد أن الفريقين السوريين المتحاربيين ما زالا يعولان على الاستمرار في الخنادق والمتاريس، وما زالا غارقان في الثنائية الأمريكية «التنحي واللاتنحي» رغم أنهما لا يجهلان أن الشعب السوري يعي جيداً وبعمق، مخاطر استمرار الحرب على وطنه، والتاريخ يشير إلى أن معاناة الفكر السياسي السوري وتنحيته مر عليها عشرات السنوات، وتشمل معظم سنوات ما بعد الاستقلال.