في ذكرى التأسيس.. الشيوعيون السوريون.. أسئلة التاريخ ومقاربات الأزمة؟
استذكار الحدث الأبرز في تاريخ الشيوعيين السوريين «ذكرى التأسيس» كما يليق بالمناسبة، وكما يليق برصيد الشيوعيين السوريين، يكمن أولاً وقبل كل شيء في الاستمرار، في استكمال ذلك السِفر الكفاحي الذي خطّه الرواد الأوائل، في إغناء تلك التجربة التاريخية الزاخرة بالكفاح الوطني والطبقي والديمقراطي، في العمل بأرقى ما أبدعه العقل البشري في ميدان علم الاجتماع «الماركسية – اللينينية» بعيداً عن العدمية والجمود وتطبيقها بشكل خلاق ومبدع في الظروف السورية، في استنهاض تلك الروح الكفاحية العالية التي تميز بها الآلاف من السوريين، وكان لهم نصيبهم من الحرمان والملاحقة والاعتقال والمنافي والاستشهاد، حتى أصبحوا رقماً في المعادلة الوطنية السورية لايمكن لكائن من كان أن يتجاهله، وإن كان البعض يحاول أن يشكك به مرة، أو يقلل من أهميته، ويشوهه مرة أخرى، أو بعض آخر يحوّله إلى مجرد بكاءٍ على الأطلال وتغنٍ بالأمجاد..
ولمن لايعرف، ولمن يتناسى، فإن أغلب المفاهيم التي تشكل الوعي الوطني السوري أصبحت كذلك لأن هناك من ضحى من أجل ذلك، وكان الشيوعيون من أبرزهم وأولهم، على الأقل في البدايات، ولاينفع سدنة معبد الاستغلال القديم– الجديد محاولة تغييب ذلك، بعد أن أصبحت تلك التضحيات جزءاً من الذاكرة الوطنية السورية، ومكوناً من مكونات الضمير الجمعي السوري.
الأزمة، التراجع النهوض
الحركة الشيوعية العالمية، ومنها الحركة الشيوعية السورية، حققت انتصارات تاريخية كبرى في النصف الأول من القرن العشرين، وأصبحت الاحزاب الشيوعية حاكمة في عشرات البلدان في أوربا وآسيا وإفريقيا وامريكا اللاتينية، بعد هيمنة قوى الاستغلال على مدى قرون، وانفتح أمام البشرية أفق جديد، ونظام بديل فأصبحت مفاهيم الاشتراكية والحرية والاستقلال هي السائدة. وكأية تجربة تاريخية، وكأية مادة حية تعرضت هذه التجربة الوليدة لتراجعات وأزمات انتهت بانهيار ذلك النموذج من النظام الاشتراكي. وبغض النظر عن أسباب ذلك فإن هذه التجربة لعبت دوراً تاريخياً في تطور المجتمع البشري ولم يستطع حتى ألد اعدائها نكران ذلك.
انعكس هذا الانهيار على عموم الحركة الثورية، ومنها الأحزاب الشيوعية وضمناً الشيوعيين السوريين بأشكال مختلفة ومستويات متعددة، وشهدوا كغيرهم مسلسل انقسامات، وتراجعات في الدور الوظيفي، الأمر الذي أدى بالبعض لأن يسارع إلى قراءة «الفاتحة على روح» الحركة الشيوعية، فشمت من الأعداء من شمت، وتباكى من تباكى، وفي الأحزاب الشيوعية نفسها ثمة من سارع إلى التبرؤ والتنصل من تهمة تاريخه الشيوعي ومرجعيته الفكرية وحتى الأسمية، وراح البعض يترنح على وقع الصدمة ويندب حظه دون أن يفهم حركة التاريخ، وتعرجاته.
الرأي الآخر
وفي ذروة موجة التراجع راح قسم من الشيوعيين السوريين إلى جانب أحزاب ثورية أخرى يدرسون بشكل هادىء أسباب الانهيار بعيداً عن المكابرة الجوفاء ودفن الرأس في الرمال، وجلد الذات، منطلقين من أن هذه المدرسة الفكرية النضالية هي أوكسجين الحياة البشرية طالما أن الرأسمالية كنظام استغلالي قائمة، وبعد مخاضات عديدة أفرزت ضرورات الواقع الموضوعي تجربة اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين، التي كانت لها قراءتها الخاصة لما جرى ويجري، وآفاق التطور اللاحق.
زرقاء اليمامة
بينما كان البعض ينعي الحركة، والمدرسة الفكرية والنظرية التي عملت بموجبها، كانت اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين تقول شيئاً آخر، وتنظر إلى الواقع من زاوية أخرى، وكان الاستنتاج بأنسداد الأفق أمام الرأسمالية كنظام، وأن هذا النظام على وشك انفجار أزمة بنيوية عميقة لامخرج منها، الأمر الذي يعني انفتاح الأفق أمام الحركة الثورية مرة أخرى، هذا الاستنتاج النظري أدى باللجنة الوطنية إلى صياغة البرامج والرؤية والخطاب على أساس قدوم موجة ثورية بلا شك، وانتصارات جديدة تلوح في الأفق.. هذا التحدي النظري، وهذه الجرأة المعرفية كان محل سخرية وتندر البعض، إلى أن جاءت الوقائع لتلقن الدروس لكل «الجهلة والمتجاهلين»، وتنفض ما تبقى من فطريات علقت بالحركة في فترة التراجع، ولتفحم كل الذين صدقوا مقولات نهاية التاريخ، والقرن الأمريكي وما إلى ذلك من رؤى وقراءات، ولينزوي من «رفاق» الأمس من انزوى، بما يعكس البنية النفسية المهزومة، وانفجرت الأزمة الرأسمالية العالمية بإحداثياتها المتعددة، وامتدت تأثيراتها إلى بلدان الأطراف. وعادت الحركة الجماهيرية إلى الشارع كما تنبأ شيوعيو اللجنة الوطنية، وبرزت قوى دولية جديدة، وأصبح السؤال عن نظام بديل عن التوحش الرأسمالي يفرض نفسه على جدول الأعمال مرة أخرى.
حزب «الحل السياسي»
في سياق نضال الشيوعيين التاريخي تم تسمية الحزب الشيوعي السوري بتسميات عديدة من الجماهير الشعبية، مثل حزب الجلاء في فترة النضال ضد الاستعمار الفرنسي، وحزب الخبز، وما إلى ذلك من تسميات تعكس المهمة الأساسية التي التي تصدى لها الشيوعيون السوريون في الظرف الملموس، ولا غرابة أن يسجل التاريخ السوري الحديث أن حزب الارادة الشعبية، وريث الشيوعيين السوريين هو حزب «الحل السياسي» في ظل الأزمة التي تعصف بالبلاد في السنوات العجاف الأخيرة.
حزب الإرادة الشعبية بما يمتلك من أداوات تحليل، وفهم عميق لتعقيدات الوضع السوري، بما فيها بنية النظام والمعارضة، وموازين القوى الداخلية والاقليمية والدولية، أكد ومنذ بداية انطلاق مظاهرات الحركة الشعبية التي كان مشاركاً بها على الحوار كسبيل وحيد للخروج من الأزمة، وبعد تحول الأزمة إلى شكلها العنفي كان الحل السياسي حسب رأي الارادة الشعبية هو المخرج الوحيد من الازمة، والممر الاجباري، ورفض على هذا الأساس مقولات الحسم والاسقاط غير الواقعية، ورفض الاستقواء بالخارج، وعدم الاستقواء على الشعب، وعلى هذا الأساس صاغ الموقف بالنضال من أجل التغيير الوطني الديمقراطي السلمي الجذري والشامل، على أساس تلازم وتكامل الوطني والاقتصادي-الاجتماعي والديمقراطي.
اذاً، كان وما زال الحل السياسي للأزمة أحد ثوابت الموقف، بغض النظر عن الأدوات، بغض النظر عن الموقع الذي كان فيه، فهكذا كان الموقف عندما كان خارج الحكومة، وهكذا كان الموقف عندما أصبح في الحكومة على أساس برنامج محدد ومزمّن، وهكذا بقي الموقف بعد أن خرج من الحكومة، ليس إرضاءً لأحد، كما حاولت بعض معارضة اللآ«حل» تصوير الموقف، وليس بحثاً عن موقع آخر كما حاول البعض في «نظام الفرص الضائعة» أن يقول، فالموقف هو هو، والمكان هو هو، والهدف هوهو، أي الحفاظ على وحدة البلاد واستقلالها والسيادة الوطنية، وفتح المجال أمام الشعب السوري ليقول كلمته في كل ما يخص مصيره، وصولاً إلى حقه المشروع في التغيير.
عودة إلى ممارسة الدور الوظيفي
ضمن هذه الرؤية المعرفية المتقدمة، ضمن هذا الفهم المتكامل للأزمة بأبعادها المتعددة، ومن خلال نشاطه الميداني على الأرض، يمكن القول إن الحزب خطا الخطوة الاولى نحو ممارسة دوره الوظيفي، فالحل السياسي الذي كان حزب الارادة الشعبية سباقاً إلى طرحه، وبغض النظر عن النفاق الذي يمارسه هذا وذاك، ورغم تعايش القوى كل على ممارسات الآخر، أصبح قاسماً مشتركاً ومحل توافق بين القوى المختلفة محلياً وعربياً ودولياً، باستثناء – سقط متاع – التاريخ من قوى التكفير والتطرف الذراع الفاشي للمراكز الدولية المنوط بها إشاعة الفوضى في كامل المنطقة، والتشويش على الزخم الثوري الحقيقي للشعوب في بحثها عن نظام بديل.