العنف وجذوره في سورية الحديثة
تنتمي سورية إلى النموذج الشرق أوسطي من أنظمة التسلط ذات القاعدة الشعبية الواسعة. وهذا النموذج بدأ يظهر في أوائل خمسينيات القرن العشرين بعد زوال الانتداب الفرنسي. وقد أقامت ملامحه الأولى النخب السياسية التي ناضلت ضد الاستعمار والتي وجدت نفسها فجأة عرضة لتهديد إسرائيل، وللاضطرابات الداخلية معاً، فسعت إلى تطوير جيش وطني حديث، وإلى إنشاء إدارة حديثة نوعاً ما، واعتمدت عليهما في تأمين الاستقرار وفي اكتساب الشرعية. غير أن التهديدات الخارجية والصراعات الداخلية حوّلت الإدارة لاحقاً إلى شكل متخلف من البيروقراطية المنخورة بالفساد، والجيش إلى مجرد أداة للحكم ولقمع الاضطرابات.
وكان الصراع في أربعينيات القرن العشرين وخمسينياته، محتدماً بين جماعة الإخوان المسلمين والحزب الشيوعي السوري، وثمة كثير من الشبان السوريين ممن نالوا تعليماً حديثاً في عهد الانتداب الفرنسي، وأرادوا الانخراط في الشأن العام، وجدوا أن من المحال أن يكونوا «إخوان مسلمين» مع أنهم مسلمون، ولا يريدون أن يصبحوا شيوعيين مع أنهم تقدميون ومن دعاة الحداثة والحرية والعدالة الاجتماعية، فكان البعث ملاذهم. وحزب البعث الذي تسلم السلطة في سنة 1963 هو حزب الطبقة الوسطى الريفية، وحزب أبناء الفلاحين الذين أصابوا بعض التعليم وبعض المواقع في الجيش، لذلك كان من غير المسموح لدى أعيان المدن السورية، وبالتحديد دمشق، ان تصبح الطبقة الوسطى الريفية منافسة لمالكي الأرض المدينيين، ومن غير المسموح لأبناء الفلاحين ان يزحزحوا الأعيان عن مواقعهم. وهؤلاء وجدوا في جماعة الإخوان المسلمين «وجه المقابحة»، أي الذين هم مستعدون للتصدي للبعث وللشيوعيين وللعَلمانيين معا، فانهالت عليهم نقود الملاك ورجال الدين ووعودهم.
وفي هذا الميدان أسس عبد الرحمن أبو غدة في حلب سنة 1963 حركة تحرير إسلامية سرية. ثم أعلن مروان حديد تمرده في سنة 1964 من جامع السلطان في حماة، وأسس «كتائب محمد» في سنة 1975 ثم «الطليعة المقاتلة»، إلى أن اعتقل سنة 1976 ومات في حزيران 1976، علما بأن شقيقه عدنان كان شيوعياً، وشقيقه كنعان كان بعثياً، وجميعهم من أصل ألباني، أي غير عربي. وفي سنة 1981 أسس عدنان سعد الدين (حماة) وعلي صدر الدين البيانوني (حلب) وسعيد حوا (حماة) «الجبهة الإسلامية». وهكذا كان مجتمع المدينة في سورية ينشطر إلى سلطة جاءت من خلال الجيش (أي أن الديموقراطية ليست على قائمة أولوياتها)، ومعارضة ذات طابع إسلامي معادية، في الأساس، للديموقراطية. فالإخوان المسلمون يرفضون الديموقراطية لأنها تعني «حكم الشعب للشعب»، ويعتنقون فكرة «الحكم لله» وإنشاء دولة إسلامية، وتطبيق الشريعة الإسلامية على المجتمع، وشعارهم «الإسلام هو الحل».
البعث والعنف
إن انفجار المكبوت الطائفي في آذار 2011 لم يكن جديداً تماماً، فهو موجود، بمقادير قليلة، منذ سنة 1860. لكن، في 8/3/1963 صحا السوريون على البيان العسكري الرقم واحد وهو يعلن إنهاء حكم الانفصال واستيلاء الضباط الوحدويين على السلطة (تحالف الضباط البعثيين والناصريين والوحدويين المستقلين). وعلى الفور رفض أعيان دمشق هذا التحول، وراحوا يشيعون ان هذا الحكم هو حكم الأقليات الطائفية. وهنا بادر الإخوان المسلون إلى تحريض الطلاب على الإضراب الذي تحول إلى عصيان قاده مروان حديد وسعيد حوا في تشرين الأول 1963، أي بعد سبعة أشهر على انقلاب البعث، وحاولوا الضغط على الحكومة كي لا تلغي مادة التربية الدينية من المناهج الدراسية، وكي لا تُصدر قانوناً مدنياً للأحوال الشخصية، وكي لا يتم المس بالأوقاف. وهذه القضايا الثلاث علمانية بامتياز.
لنرصد، في استعادة تاريخية سريعة، صورة الواقع كما تجلى في سنة 1963: الضباط الوحدويون يستولون على السلطة. وبما أنهم لا يملكون أداة سياسية للحكم، وليست لديهم أي خبرة في إدارة شؤون الدولة، استدعوا حزب البعث الذي لم يكن قادته الأوائل، على الأرجح، على علم بانقلاب 8 آذار 1963، وقالوا له: تفضل وتسلم الحكم. فقبل ميشال عفلق وصلاح الدين البيطار ومنيف الرزاز هذه المهمة.
لقد حكموا البلاد والعباد وأداروا شؤون الدولة لا بالمؤسسات المدنية الضحلة الواقعة تحت السيطرة التقليدية للأعيان، بل بالمؤسسة التي وصلوا من خلالها إلى السلطة، أي الجيش، وهي المؤسسة الوحيدة التي كانت بين أيديهم حقاً. فالمؤسسة الدينية، وهي لسان حال الأعيان، كانت مناوئة لهم. ومالكو الأرض كانوا ضدهم. وأصحاب الصناعات خافوا المصادرة. وأصحاب الوكالات التجارية أُصيبت مصالحهم في الصميم. وهكذا صار البعث في مكان، ورجال الدين ومالكو الأرض والتجار في مكان آخر. وكانت التأميمات المرتجلة في 1/1/1965 التي طالت 108 شركات مرة واحدة مدعاة للنقمة العارمة لأنها مست مصالح الأعيان من مالكي الأرض والتجار ورجال الدين والصناعيين مباشرة. حينذاك دعا رجال الدين إلى الجهاد ضد نظام البعث، وتألفت، على الفور، «كتائب محمد» بقيادة الإخوان المسلمين وبتمويل مكشوف من التجار. وفشلت السلطة الجديدة في كل شيء تقريباً جراء الصراع بين المدنيين والعسكريين، ثم هزمت شر هزيمة في الخامس من حزيران 1967. وانفجرت صراعات الضباط (سليم حاطوم وعبد الكريم الجندي وصلاح جديد وحافظ الأسد ومحمد عمران وأحمد سويداني) إلى أن تمكن حافظ الأسد في سنة 1970 من حسم الأمر لمصلحته، واحتكر السلطة بين يديه. حينذاك كتب تجار دمشق على مدخل سوق الحميدية: «طلبنا من الله المدد فأرسل حافظ الأسد».
الإخوان المسلمون والعنف
تنفس الإخوان المسلمون الصعداء في بداية عهد حافظ الأسد، ومع أنه خاض حرب تشرين الأول 1973، إلا أنهم ما لبثوا أن شرعوا في ممارسة الإرهاب حين شعروا بأن النظام يواجه خلخلة ما جراء الدخول إلى لبنان في سنة 1976، وجراء معارضة الاتحاد السوفياتي لهذا الدخول، وبعد الصدام العسكري المباشر مع قوات المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية فنفذوا حملة اغتيالات.
وقبل ذلك ارتكبت جماعة الإخوان المسلمين في 16/6/1979 مجزرة مدرسة المدفعية في حلب التي ذهب ضحيتها عشرات الضباط، وكانت جميع هذه الحوادث علامات على الطريق قبل أن يختار النظام الحسم النهائي للمشكلة على قاعدة «نهاية فظيعة خير من فظائع بلا نهاية»، فكانت أحداث حماة التي بدأت في 2/2/1982 وانتهت بمجزرة في 28/2/1982. ويتحمل «الإخوان المسلمون»، بالتأكيد، الجزء الكبير من المسؤولية عن هذه المجزرة، لأنهم حين اختاروا اللجوء إلى الإرهاب ضد النظام ومؤسسات الدولة وشخصياتها، إنما كان من المفترض أن يعرفوا أن النظام سيواجههم بإرهاب أشد، وهي قاعدة معروفة في التاريخ السياسي وفي الفكر السياسي معاً.
كان «الإخوان المسلمون» مسؤولين جزئياً عما حل بسورية وشعبها من قمع واضطهاد وعسف في سبعينيات القرن العشرين وثمانينياته أيضا. وأعتقد أن تسليمهم اليوم راية التحول في سورية هو الكارثة بعينها. أما الخطاب الجديد في شأن «الدولة المدنية» الذي ما برح «الإخوان المسلمون» مروجين له فهو يحتاج إلى البرهان العملي أكثر من مرة، لأن تاريخهم القريب المليء بالتحالف مع الطغاة (صدام حسين مثلاً) ومع النظم العربية الفاسدة والعميلة للولايات المتحدة الأميركية (السعودية مثلا)، وعدائهم العقيدي للديموقراطية، وتعصبهم المذهبي، يدفع كثيرين إلى وضع أيديهم على مسدساتهم كلما اقتربت هذه الجماعة من السلطة.
سورية بلا إرهاب أو فساد
إن سورية المقبلة، أي سورية الديموقراطية، أو سورية العلمانية التي نتطلع إليها، لن تؤسسها السلطة الحالية. ومن المحال ان تنبثق على أيدي المعارضات التي ترعرعت لدى أجهزة الاستخبارات الأميركية والفرنسية والتركية والسعودية والأردنية. إن معارضة تضم المهرب مأمون الحمصي والمتعاون السابق مع المخابرات السورية، الذي لم يتورع عن حضور مؤتمر للأمن في براغ مع «الإسرائيلية» فياما نيرنستين المقيمة في مستعمرة غيلو، والفاسدين عبد الحليم خدام ورفعت الأسد، وكذلك نهاد الغادري الذي لم يترك جهازا استخبارياً يعتب عليه، شأنه في ذلك شأن ابنه فريد الذي غيّر اسمه إلى «فرانك»، وزار إسرائيل في حزيران 2007، ودعا من على منبر «الكنيست» إلى شن حرب على سورية لإسقاط النظام، وبسمة القضماني ذات العلاقات المريبة، وأكاد أقول المكشوفة، بالاستخبارات الأميركية CIA وبالاستخبارات الفرنسية، ورضوان زيادة الذي يحذوها حذو النعل بالنعل، وملهم الدروبي الذي لم يجد غضاضة في التنسيق مع الصهيوني برنار هنري ليفي في «منتدى قواعد اللعبة» في باريس في 4/7/2011 والذي حضره إلى جانب محمد فاروق طيفور (نائب المراقب العام للإخوان المسلمين في سورية) وعمر العظم وعهد الهندي وعبد الإله الملحم ولمى الأتاسي وعمار القربي وسندس سليمان وأديب الشيشكلي، وسمير النشار الذي بُحّت حنجرته وهو يدعو جهاراً إلى الحرب الأهلية، وبرهان غليون الذي تحول من رجل أكاديمي ديموقرطي إلى رجل وزارة الخارجية الفرنسية ومن دعاة التدخل الخارجي، علاوة على عدنان العرعور وما هب ودب من أسماء صنعها زمن الانحطاط الجديد، ولا يمكنها أن تبتدع مستقبلا من الحرية لسورية، أو أن تصنع مجداً للشعب السوري. وجل ما يستطيعه هؤلاء هو تسعير الحرب الأهلية.
عن جريدة السفير