بروكسل.. الفاشية تسوق «الخراف الضالة» إلى الحظيرة الأمريكية!
تتفاعل حتى اللحظة أصداء تفجيرات بروكسيل التي تبنتها داعش وأسفرت عن مقتل 34 ضحية وسقوط عشرات الجرحى. هذه التفجيرات تأتي بعد أربعة أشهر على تفجيرات باريس (13/11/2015) التي قتلت 137 ضحية وأسقطت مئات الجرحى، وبعد أكثر من سنة على أربعة تفجيرات في فرنسا أيضاً يومي (7-9/1/2015)، تبنتها داعش وقتلت 14 ضحية وأوقعت 27 جريحاً..
لم تكد تنقض ساعات قلائل على توارد أخبار التفجيرات، حتى جثمت حالة من الرعب والهلع الشديدين على صدر القارة الأوروبية بأسرها، وقسمها الغربي خاصة. تعززت حالة الرعب هذه بسيل من التصريحات الرسمية الأوربية التي انطلقت من مختلف عواصم القارة، والتي بدأت على شكل أخبار عن عمليات طارئة لتعزيز أمن المطارات وسكك القطارات في كل من فرنسا وألمانيا وبريطانيا والسويد وبولندا وهولندا والنمسا وإيطاليا.. وغيرها
تلا ذلك جملة من التصريحات السياسية الطابع التي أكدت تمسكها بـ«ديمقراطية» أوروبا و«انفتاحها» في وجه التعصب الطائفي والقومي والديني، كما جاء في تصريح شتولتنبرغ أمين عام الناتو وفي تصريح وزارة الخارجية اليونانية وغيرهما، بما يضع المسألة برمتها في خانة «الصراع الحضاري» الذي من شأنه أن يوجه الأنظار نحو «العرب» و«الإسلام» ونحو «اللاجئين» تحديداً وهو ما يسمح للمركز الذي صاغ المهمة والهدف من وراء هذه التفجيرات بالوصول إلى هدفه المنشود!
إنّ ما يميّز بروكسيل هو مسألتان أساسيتان، ففيها المقر الرئيسي لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وهي عاصمة الاتحاد الأوروبي، بما يعني أنّ هاتين الجهتين هما المعنيتان باستلام الرسالة السياسية الكامنة طيّ تفجيرات بروكسيل. فما هي تلك الرسالة؟
إنّ أول خطوة نحو فهم أي عملٍ من هذا النوع، بما في ذلك أحداث سبتمبر في الولايات المتحدة وغيرها، هي إبعاد مصادر التشويش الأيديولوجي المحمول على ألسنة سياسيين ووسائل إعلام، عالمية وإقليمية ومحلية. ذلك التشويش الذي يجعل من داعش والقاعدة وأشباههما حاملاً لـ«قضية فكرية وحضارية» متناقضة تناحرياً مع قضية أخرى «فكرية وحضارية» أيضاً، هي قضية «الغرب الديمقراطي المتحضر»، إنّ تشويشاً من هذا النوع من شأنه قطع صلة هذه التنظيمات وأعمالها بالواقع الفعلي للأمور، بالواقع الاقتصادي- الاجتماعي العالمي، بواقع نهب الشمال للجنوب ونهب حكومات العالم قاطبة للشعوب، كل على حدة، وكلها معاً..
إنّ وقائع العام الأخير، والأشهر القليلة الماضية تحديداً، تؤكد أنّ ما يحكم السياسة الدولية بأسرها هي الخطوط العامة الثلاثة التالية:
· الأزمة الرأسمالية العالمية تتفاقم باطراد، والشعوب المضطهدة تبدأ بتلمس الأشكال المناسبة لتنظيم قواها.
· صعود قطب البريكس وتغير التوازن الدولي.
· انقسام المعسكر الإمبريالي الغربي تحت وطأة التراجع وتقدم الخصوم، بين تيارين: «عقلاني» يسعى إلى التكيّف مع واقع التراجع ليجعله سلساً وانسيابياً قدر الامكان، وفاشي يرفض التراجع ويعمل على إشعال أكبر مساحة ممكنة من الكرة الأرضية بالأزمات والحروب البينية لكبح تقدم الخصوم ولفتح الأفق أمام احتمالات منع التراجع.
ضمن هذه الخطوط بالذات، يمكن فهم ما جرى في بروكسيل، وهذا الفهم نلخصه بالنقاط التالية:
· بعد تلقي التيار الفاشي ضربات موجعة وجدّية، سياسية وعسكرية ومالية، خلال الأشهر القليلة الماضية، وعلى يد الروس أساساً ضمن «تعاون ما» و«توافق ما» مع «عقلانيي» الطرف الآخر، فإنّ الطوق حول عنق الفاشية بدأ بالتضيّق، وإنّ وقتهم بدأ بالنفاد، ولذا غدا من الضروري الضغط بأقصى طاقة لتغيير ميزان القوى ضمن المعسكر الغربي نفسه لمصلحة الفاشيين وضد «العقلانيين»، تمهيداً لحلم ضرب ميزان القوى الدولي الجديد.
· إنّ حسم الصراع داخل المعسكر الغربي، وداخل المركز الأمريكي تحديداً، يتطلب في البدء جرّ أوروبا إلى «الحظيرة الأمريكية» نهائياً، وتكبيل «نزعاتها الاستقلالية» التي بدأت بالظهور خلال العقد الأخير، هذه النزعات التي يمكن لها أن تصل حد «الحلم الأوراسي» الذي يكفي بوصفه حلماً ليلقي الفزع في قلوب قادة التيارين الأمريكيين، فكيف به واقعاً! تجدر الإشارة هنا إلى أنّ إصرارانا على وضع العقلاني بين قوسين يعود في أحد أسبابه إلى شراكته مع الفاشي ومحاولة كلٍ منهما الاستفادة من الآخر وتقاطعهما في الرعب من احتمال تقارب أوروبي- روسي «يلقي بهم خلف البحار البعيدة»، عدا عن أنّ الرأسمالية أياً كانت تياراتها فهي غير عقلانية وغير إنسانية لا في تعاملها مع البشر ولا في تعاملها مع الطبيعة.
· بما أنّ سَوق «الخراف الأوروبية» ضرورة أمريكية «فاشية- عقلانية»، فالتحكم بمصير أوروبا السياسي هدف مشترك للتيارين، وهذا يتطلب تسلّم السلطة في مختلف أنحاء أوروبا من تلك القوى الشبيهة بالقوى الفاشية، أي القوى المتعصبة والقومية والشوفينية، وهذا بدوره يتطلب رفع حالة عدم الاستقرار إلى حدودها القصوى، إلى «حالة حرب» كما وصفا بالحرف رئيس وزراء فرنسا مانويل فالس في تعليقه على ما تعيشه أوروبا هذه الأيام بعد تفجيرات بروكسيل، ويتطلب صب الغضب والخوف الأوربي على رؤوس اللاجئين، ما يدفع إلى الواجهة القوى السياسية العنصرية والقومية.
· من المؤسف القول أيضاً أنّه ليس صعباً التنبؤ بأنّ هذا النوع من الهجمات سيزداد في الفترة القريبة القادمة، ليرفع «حالة الانضباط» الأوروبي ضمن المعسكر الأمريكي إلى الحدود القصوى.
رغم مأساوية الحدث، إلّا أن دلالته الأعمق هي أنّ مشعلي الحروب الفاشيين باتوا في وضع شديد الصعوبة والضيق، وكلّ ما فعلوه خلال السنوات الماضية لم يسمح بتغيير الميل العام نحو حلحلة مختلف الأزمات سياسياً، ونحو تكريس التوازن الدولي الجديد سياسياً واقتصادياً وحتى عسكرياً.