الشخصيّة المغيَّبة لغيفارا كقائدٍ في العِلم والصناعة (2)

تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان

كانت كوبا أكبرَ مصدِّرٍ للسكّر في العالم في الخمسينيات، ولكنْ تحت هيمنة الشركات الأمريكية على صناعة السكر ومشتقّاته التي شكّلت 86% من صادراتها، وسيطرتها على 75% من الأراضي الصالحة للزراعة تاركةً نصفها بوراً. وكانت توظّف 25% من القوة العاملة الكوبية، مع 25 ألف عامل فقط بدوام كامل، مع نحو نصف مليون عامل بالحصاد الذي يتطلّب عمالةً كثيفة لمدة 2 - 4 أشهر، ثم يتمّ تسريحهم بعد ذلك بسبب الموسم الميّت (تيمبو مورتو). وكان عمّال المزارع يشكّلون بروليتاريا ريفية لها تاريخ من النضال الطبقي الواعي. في عام 1955 سيطر المستثمرون الأمريكيون على 40% من إنتاج السكّر الخام، واستحوذ الأمريكان على 80% من صادرات السكر الكوبي بينما أغرقت الواردات الأمريكية السوقَ الداخلية لكوبا، وعملت كأداة للسيطرة السياسية والاقتصادية. لم يُنشأ أيُّ مصنع سكّر جديد منذ عام 1926، وبحلول عام 1951 حذّر البنك الدولي من أنّ «مستوى المعيشة في كوبا... يعتمد بشكل أساسي على الصناعة التي توقّفت عن النموّ منذ سنوات عديدة».

دوافع مَيْكَنة حصاد القصب

أولاً، نقص عمال المناجِل نتيجةً للهجرة من الريف إلى المدن بعد عام 1959، مع ارتفاع الأجور الحقيقية، وخلق فرص العمل. وتطلّب حصاد عام 1961 تعبئة 200 ألف متطوِّع، وكان الحلّ على المدى الطويل هو المَيكَنة. ثانياً، لإضفاء الطابع الإنساني على العمل، قال غيفارا إنّه في المستقبل القريب «أولئك الذين يتحدثون عن القطع باليد والتحميل باليد، سيُعتبرون أنهم يقترحون عملاً وحشيّاً غير إنساني، وهو شيءٌ من الماضي». ثالثاً، ستخفّض الميكنة تكاليف الإنتاج وترفع الإنتاجية وتطوِّر مشتقات السكر ذات القيمة المضافة.
ويروي ألفريدو مينينديز، أحد المسؤولين بقطاع السكر بوزارة الصناعة الكوبية، كيف عزّزت تجربة غيفارا بالعمل التطوّعي لحصاد القصب تصميمَه على المَيكنة «كان يوماً حارّاً... الجميع متعبون، لكنهم لم ينتهوا من قطع أجزاء من حقل القصب... جلس تشي ليستريح في الظل. وعندما رأى الناسُ ذلك توقفوا عن العمل أيضاً. شرحت له لماذا كان عليك إنهاء الحصاد. فقال: اللّعنة، سوف أقوم وأقطع قصباً؛ ولكن هذا عمل العبيد، ويجب أن يكون آليّاً!».
قاوم عمّالُ المناجل محاولات ميكنة حصاد السكر قبل عام 1959 نظراً لاعتمادهم بمعيشتهم على المناجل رغم العمل الشاقّ. ونظر غيفارا إلى الإنجازات الأولية لمشروع الميكنة كخطوة مهمة للتغلّب على هذه المقاومة. ولأنهم وثقوا بأنّ الثورة ستوفّر لهم فرص عمل بديلة ورفاهية اجتماعية، تخلّى عمال السكر المتشدّدون عن مقاومتهم للمَيكنة. «في عصر الثورة، لم تكن هذه الآلات تعني البطالة»، كما أوضح ميغيل أنخيل دوكي دي إسترادا راموس، الذي كان رئيس مكتب القضايا الخاصة لفريق عمل الميكنة. لم يكن الشباب الذين ينتقلون إلى المدن للدراسة والعمل يرغبون بالعودة إلى العمل اليدوي في الريف، فتوقّفوا عن معارضة الميكنة.

لجنة ميكنة حصاد السكر 1961

هل شاهدتم لقطات فيلمية لتشي وهو يقطع قصب السكر؟ كان يعمل على أحدحأ النماذج الأولية، ويكافح ليتنفّس، لأنّ الغبار المنبعث كان مروّعاً بالنسبة له كمريض ربو. قضى تشي شهراً في قطع قصب السكر حتى أصيب بنوبة ربو رهيبة.
أُنشِئتْ لجنةُ ميكنة حصاد السكر أوائل عام 1961 برئاسة دوكي دي إسترادا ومينينديز، في ظلّ نقص المواد، وخاصة تحت الحصار الأمريكي المؤلم بالفعل. استغرق إنشاء مؤسسة لتركيب الآلات تسعة أشهر، ولكن بالتعاون بين الميكانيكيين ومصانع السكر ومساعدة المهندسين من الاتحاد السوفييتي وتشيكوسلوفاكيا والمجر والأرجنتين وبلغاريا، بحلول بداية موسم الحصاد عام 1962، تمكّنت اللجنة من تركيب أكثر من 500 قاطع قصب مما زاد الإنتاجية وقلّص العمالة إلى 40% مقارنةً بالحصاد بالمناجل اليدوية.
للتحايل على الحصار الأمريكي، استورد جيفارا قاطعة قصب أمريكية وأخرى أسترالية كنماذج أولية. وقام المهندسون بتكييف التصميم لتركيبه فوق الجرارات المستوردة من الدول الاشتراكية. كانت النسخة الأولى بسيطة وإشكالية. وفي حديثه لعمال السكّر في أحد أيام العام 1963 بعد 6 ساعات من قطع القصب على الآلة في ذلك الصباح، وعشر ساعات في اليوم السابق، وصَفَهَا غيفارا بأنها في المرحلة التجريبية وعرضة للأعطال، وخاصّة مع المشغِّلين عديمي الخبرة. وأعلنَ أنّ «القاطع يقطع اليوم بشكل أنظف من المنجل العادي»، بينما دعا إلى انتقادات بنّاءة لتحسين الآلة. وحذّر من أنَّ «الآلة خطيرة»، واعترف بأن الشّفرات انكسرتْ في يوم سابق، مما أدى إلى إصابة رفيق لم يتخذ الاحتياطات اللازمة. في ذلك اليوم تسابق الوزير العامِل غيفارا ونائبُه أورلاندو بوريغو بالعمل على تلك الآلات التجريبية، من الساعة 6 صباحاً حتى 6 مساءً، مع استراحة مدتها 15 دقيقة. يتذكر بوريغو دياز «عندما أنهينا العمل، عند الغسق تقريباً، بدا تشي مبتهجاً، وبأنفاسه القصيرة [بسبب الربو] تحدّث عن مزايا وعيوب آلة القطع، وانتهى بالقول، إن معركة مكننة القصب قد تمّ تحقيق النصر فيها». بالنسبة لغيفارا، لم تُقَسْ أهميّةُ اللجنة بالنتائج الملموسة فحسب، بل بجرأة الثورة في العمل نحو أهداف معقّدة. وقال لعمّال السكّر: «إنّ آلات قطع قصب السكر تمثّل موضوعياً انتصاراً للثورة، وتُظهِر قدرَتَها على تركيز قواها من أجل حلّ المشكلات».
استمرّ مشروعُ الميكنة بعد رحيل غيفارا. ومع ذلك تمّ قطع 1% فقط من المحصول ميكانيكياً بحلول عام 1970. وبفضل المساعدة السوفييتية والاستخدام المتزايد للمكونات الكوبية، وصل الرقم بحلول عام 1990 إلى 71%. وأعلن فيدل كاسترو عام 2004 «اليوم، لم يعد هناك أحدٌ يقطع قصب السكّر باليد».

أبحاث مشتقات القصب

يعترف ساينز بأن غيفارا كانت له رؤية للمستقبل لم تحظَ بالتقدير الكافي داخل كوبا بالوقت المناسب، حيث قال تشي «دعونا نصنع منتجاتٍ ذات قيمة مضافة أكبر من السكر، بحيث يكون السكر منتوجاً فرعياً والمواد البلاستيكية والأدوية الصيدلانية وما إلى ذلك هي المنتوجات الرئيسية». فتم إنشاء «المعهد الكوبي لأبحاث مشتقّات قصب السكر» ICIDCA لدراسة صناعاتٍ تحويلية جديدة تعتمد على السكّر الخام، لمنتوجات مثل «دبس السكر» من عصير القصب، والذي يُستخدَم لصنع الكحول وخاصة مشروب «الرّوم»، وتفل قصب السكر الذي استخدم لفترة طويلة وقوداً للنار في مصانع السكر، لكن غيفارا طمح لاستخدامه بصناعة الورق المقوّى والألياف الصناعية، وموادّ للصناعات الطبية ومستحضرات التجميل والأعلاف الحيوانية، مما يخلق «مناطق صناعية» حول مصانع السكر، وفرصَ عَملٍ وتنمية في المناطق الريفية. حتّى على المستوى الدولي، لم تُجرَ سوى القليل من الأبحاث حول المنتوجات الثانوية للسكر. فلم يكن ممكناً استيراد التكنولوجيا المطلوبة لأنها بالكاد كانت موجودة، وسوف يعتمد النجاح إلى حدّ كبير على قدرة معهد الأبحاث الكوبي على تطويرها بنفسه، رغم بطء العملية نظراً لنقص العلماء والفنيين وغياب الصناعة الميكانيكية في كوبا. لكنّهم نجحوا بتطويرها بمساعدة متخصّصين من ألمانيا الشرقية، بما فيها تجربة أُنشئت في مصنع سكّر أمريكي سابق لاستخراج الدكستران (المستخدم طبياً كمضاد للتخثر ولتقليل لزوجة الدم) من قصب السكّر. كما طوّروا تكنولوجيا لإنتاج خمائر التورولا لتغذية الماشية. وقيل إنّ تشي كان راضياً جداً عن النتائج.

لقراءة الجزء الأول من هذا المقال، اضغط هنا