عِلْم الأنفاق التحرّري.. عندما يشقّ الشعب الأرض قبوراً لغاصبيه
في 17 من تشرين الأول الجاري، وبعد عشرة أيام على عملية «طوفان الأقصى»، نشر «معهد الحرب الحديثة» MWI، في ويست-بوينت في نيويورك، مقالاً بقلم رئيس قسم دراسات «حرب المدن» فيه، بعنوان «كابوس تحت الأرض، أنفاق حماس والمشكلة المريعة التي تواجه الجيش الإسرائيلي». وفيما يلي تلخيص لأبرز ما جاء فيه.
تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان
إذا شنّت «إسرائيل» حملة برّية على غزّة فقد تواجه كثيراً من التحديات، بعضها تمثّل سمات مشتركة لتاريخ حرب المدن الحديثة، بينما ينبع بعضها الآخر من الخصائص الفريدة للتضاريس الحَضَريّة في غزة. لكنّ هناك تحدياً واحداً يشمل كلا الفئتين، إنها الأنفاق.
ظهرت المساحات الجَوفيّة في معارك حَضَرية أخرى، وتمتد إلى التاريخ القديم. لكن حجم التحدي في غزة فريدٌ من نوعه تماماً، حيث تتقاطع مئات الأميال من الأنفاق تحت الأرض في مجمَّع متوسِّع، وهي مشكلة عويصة تتربّص بالقوات البرّية «الإسرائيلية» وليس لها حلّ مثالي.
حرب الأنفاق ليست جديدة. ويمتد تاريخها الطويل بدءاً من العصور الوسطى، عبر الجزء الجوفي من معارك الحرب العالمية الأولى بما فيها الأنفاق العميقة الطبيعية إضافةً إلى الصُّنعيّة، ومؤخراً كانت هناك أنفاق أيضاً استخدمت في ماريوبول وباخموت وسوليدار خلال الحرب الراهنة المستمرة في أوكرانيا.
من فيتنام إلى غزة
تشمل خبرة الجيش الأمريكي في التعامل مع الأنفاق حصار الحرب الأهلية في فيكسبيرغ، ميسيسيبي، في عام 1863 وفيرجينيا في عام 1864، والمجمّعات الضخمة تحت الأرض في حرب فيتنام، وأنفاق تنظيم القاعدة و»داعش» في أفغانستان وسورية والعراق.
في فيتنام، استخدمت القوات الفيتنامية الشمالية وقوات الفيتكونغ أميالاً من شبكات الأنفاق لحماية طرق إمدادها وقواتها العسكرية وقواعدها في أماكن مثل «كو تشي»، وأصبحت المشكلة خطيرة للغاية لدرجة أنها أجبرت على تطوير تكتيكات جديدة مثل إرسال جنود، أطلقت عليهم تسمية «فئران الأنفاق»، مسلّحين فقط بمسدس ومصباح يدوي.
في الجيش «الإسرائيلي» غالباً ما يشيرون إلى أنظمة الأنفاق الخاصة بالحركة باسم «المترو». كان تدميرها أحد أهداف الحملات البرية السابقة على غزة، في عامي 2008 و2014. وفي المجمل، يُعتقد أنَّ هناك أكثر من 300 ميل من الأنفاق في عام 2021، عندما ادّعت «إسرائيل» أنها دمّرت 60 ميلاً منها خلال حملة قصف استمرت 11 يوماً. وحتى لو لم تتم إعادة بناء هذه الأنفاق أو استبدالها، فهذا يعني أنه من المحتمل أنّه لا تزال هناك مئات الأميال من بنيتها التحتية المعقّدة والعميقة. إنها مدينة حقيقية تحت سطح غزة.
وإذا شنّت «إسرائيل» حملة برية، ستستخدم حماس أنفاقها دفاعياً وهجومياً. إنّ الأنفاق التي واجهتها «إسرائيل» فيما عرف بعملية «الجرف الصامد» عام 2014 تقدّم أدلة حول ما يمكن توقّعه في الأيام والأسابيع المقبلة.
الاستعمال الدفاعي
ستستخدم المقاومة الأنفاق للتملّص من مراقبة جيش الاحتلال وهجومه وخاصةً الجويّ، وستكون قد وضعت بالفعل قيادتها ومقاتليها ومقارها واتصالاتها وأسلحتها وإمداداتها مثل الماء والغذاء والذخيرة في مجمعات أنفاقها استعداداً للهجوم البرّي. تسمح الأنفاق للمقاتلين بالتنقل بين سلسلة من مواقع القتال بأمان وحرية تحت المباني الضخمة، حتى بعد أن يُسقِط جيش الاحتلال عليهم قنابل تزن ألف رطل. وغالباً ما تحتوي أنفاقهم على مولدات طاقة، وتهوية، وأنابيب مياه، ومخزونات غذاء مما يسمح للمقاتلين بمقاومة التحديات الأساسية بشكل أفضل، مثل الإرهاق الطبيعي الناتج عن الحصار الحَضَري والعزلة. سيستخدم قادة ومقاتلوا المقاومة الأنفاق للبقاء متحركين للهروب من أجزاء كاملة من منطقة القتال عندما يشعرون أنهم على وشك التعرّض لهجوم حاسم أو أنهم محاصرون.
الاستعمال الهجومي
تسمح أنفاق المقاومة لقوّاتها بتنفيذ هجمات محمية ومباغتة. سيستخدمون الأنفاق للتسلل خلف مواقع قوات الجيش «الإسرائيلي» لمفاجأتها حيث لا تكون مستعدة أو مجهزة للقتال جيداً. ستسمح الأنفاق المترابطة بالتحرك السريع بين مواقع الهجوم المجهزة بمخابئ لبنادق القناصة والذخائر المضادة للدبابات والقنابل اليدوية وغيرها. ستشكل الأنفاق العنصر الحيوي في إستراتيجية حرب الغوار التي تنتهجها المقاومة الفلسطينية في القطاع. سيشكّل مقاتلوها فرقاً صغيرة من «الصيّادين» تتحرّك تحت الأرض وتنبثق وتضرب، ثم تعود سريعاً إلى النفق. وتستخدم المقاومة الأنفاق أيضاً لإخفاء الصواريخ ونقلها، والتي يمكن تفجيرها عن بعد أو نقلها إلى مواقع الإطلاق المخفية في اللحظة الأخيرة. سيكون لديهم أيضاً العديد من الأنفاق المجهزة بمئات الأرطال من المتفجرات بمثابة قنابل أنفاق تحت الطرق الرئيسة والمباني التي قد يُستَدرَج إليها الجيش «الإسرائيلي» (كمائن).
«الغطس» في جحيم النفق
يمثل دخول الأنفاق تحديات تكتيكية فريدة من نوعها، ولا يمكن التغلب على العديد منها دون معدات متخصّصة. أحياناً قد يكون مستحيلاً التنفّس فيها بلا خزانات الأكسجين، حسب عمقها وتهويتها. قد تكون الرؤية مستحيلة أيضاً. تعتمد معظم نظارات الرؤية الليلية العسكرية على بعض الإضاءة المحيطة ولا يمكنها العمل في الغياب التام للضوء. لن تعمل تحت الأرض أيّ معدّات ملاحة أو اتصالات عسكرية تعتمد على إشارات الأقمار الصناعية وما شابه. يمكن للسلاح الذي يتم إطلاقه في مساحات صغيرة من الأنفاق، حتى لو كانت البندقية، أن يحدث تأثيراً ارتجاجياً قد يلحق الضرر الجسدي بمطلق النار نفسه. ويمكن لمُدافِعٍ واحد أن يهيمن على نفق ضيّق ضد قوة مهاجمة أكثر تفوقاً منه بكثير.
بماذا تتميّز أنفاق غزة؟
ليست كلّ الأنفاق والمخابئ العسكرية متماثلة. لقد رأيتُ بنفسي هذا التنوّع الكبير، حيث كنتُ في الأنفاق الكورية الشمالية التي تمّ اكتشافها في كوريا الجنوبية، والمخابئ العسكرية العراقية، والمخابئ والأنفاق الدفاعية في ناغورنو كاراباخ، وأنفاق حزب الله على طول الحدود مع لبنان.
من المهمّ الإشارة إلى سمتَين نموذجيّتين لأنفاق غزة. أولاً، جميعها تقريباً ضيّقة جداً، بسبب الجوانب الخرسانية الجاهزة التي تفضّلها حماس. وسطي ارتفاع النفق الغزّاوي مترين فقط وعرضه مترٌ واحد، ما يجعل الدخول والتحرك والقتال صعباً للغاية. ثانياً، لمجاراة التقدّم «الإسرائيلي» في كشف الأنفاق وتدميرها، عمّقت المقاومة أنفاقها أكثر. وحتى عام 2020 كان أعمق نفق عثرت عليه «إسرائيل» ينحدر بعمق 230 قدماً [70 متراً] تحت سطح الأرض.
تكنولوجيا المعتدي ومتاهات المُدافِع
يتابع الكاتب (جون سبنسر) بأن لدى الجيش «الإسرائيلي» وحدة كوماندوز ياهالوم المختصّة بالعثور على الأنفاق وتدميرها، وهي أكبر الوحدات في العالَم بتطوير طرق جديدة للتعامل مع الحرب السرّية، وتضم وحدات تابعة مثل سيفان للتعامل مع تهديد الأسلحة غير التقليدية، وسمور، المتخصصة بدخول الأنفاق وتدميرها. وهناك وحدة كلاب «الجيش الإسرائيلي» أوكيتس مدرَّبة على العمل تحت الأرض.
تستخدم وحدات استطلاع الأنفاق في جيش الاحتلال أجهزة استشعار أرضية وجوية، ورادار اختراق الأرض، ومعدّات حفر، وأجهزة راديو وتقنيات ملاحية تعمل تحت الأرض، ونظارات رؤية ليلية بتقنيات حرارية وغيرها للرؤية في الظلام الدامس، وروبوتات طائرة أو زاحفة بتحكّم سلكيّ يمكنها النظر إلى الأنفاق ورسم خرائط لها دون المخاطرة بالجنود. إضافة إلى أجهزة محاكاة تدريب بالواقع الافتراضي، والكثير من الذخائر الخارقة للأرض مثل GBU-28 (لمسافة 100 قدم أو 20 قدماً من الخرسانة)، ومتفجرات متنوعة لهدم الأنفاق أو إغلاقها، والكثير من الجرافات - وهو تكتيك استخدمته مشاة البحرية الأمريكية عندما أقفلت على المدافعين اليابانيين داخل كهوفهم وأنفاقهم خلال الجزء الأخير من معركة «إيو جيما» عام 1945. وعندما تم اكتشاف أنفاق متعددة لحزب الله على طول الحدود الشمالية (لفلسطين المحتلة) عام 2017، قام جيش الاحتلال بسكب شاحنات من الأسمنت الرطب في الأنفاق لإغلاقها. ويضيف الكاتب إنّ مصر تحاول تحييد أنفاق التهريب العابرة لحدودها مع غزة عبر إغراقها بمياه البحر والصرف الصحي.
الحقيقة المرّة على الصهاينة
يختم الكاتب مقاله بأنّ «الحقيقة الصعبة» – بالنسبة للأمريكان والصهاينة وحلفائهم – هي أنّ عمق وحجم أنفاق غزة يتجاوز القدرات المتخصّصة «لإسرائيل». ويوضح بأنّ العثور على أنفاق المقاومة الفلسطينية في غزة وتدميرها لن يكون سهلاً لعدة أسباب، غزة ليست تضاريس جبلية منخفضة السكان، كما في أفغانستان مثلاً، حيث أسقط الجيش الأمريكي عام 2017 أقوى قنبلة أمريكية غير نووية - قنبلة GBU-43/B الضخمة التي تزن 21600 رطلاً - على كهف ومجمّع أنفاق قال إنه «لداعش». ومن المرجح أن تضع حماس الأسلحة والمتفجّرات في الأنفاق وقد تؤدي إلى انفجارات غير مقصودة في أماكن أخرى أو تنتقل عبر أجزاء أخرى من شبكة الأنفاق، مما يتسبب بأضرار لم يتوقّعها الجيش «الإسرائيلي». وأخيراً، يُرجَّح أن حماس تضع الأسرى «الإسرائيليين» في أنفاقها. ويختم الكاتب بالقول إنه نظراً لحجم وتعقيد البنية التحتية تحت الأرض في غزة، هناك شيء واحد مؤكّد، وهو أن التغلب على التحديات التي تفرضها الأنفاق سيتطلب الكثير من الوقت.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1146