وثيقة سرّية أمريكية عن تقدّم العلوم السوفييتية
 أ. سينكوف  أ. سينكوف

وثيقة سرّية أمريكية عن تقدّم العلوم السوفييتية

من بين وثائق وكالة الأمن القومي الأمريكي NSA المرفوع عنها السرية وثيقة من 24 صفحة بعنوان «العلم والتكنولوجيا السوفييتيّان: المستويات الحالية والآفاق المستقبلية»، موقَّعة باسم مؤلّفها، عميل الوكالة أ. سينكوف. ومع أنها كتبت بين عامي 1954 و1955 لم تُرفَع السرية عنها سوى عام 2008 (أيْ بعد أكثر من 50 عاماً). وقد تضمّنت تقييماً ومعلومات عن أبرز خصائص العلم في الاشتراكية السوفييتية: التخطيط الحكومي المركزي– وما يبدو توليفة ناجحة بين المركزية واللامركزية في العِلم– والتوسّع– ومقارنات كمية ونوعية بين الكوادر العلمية السوفييتية والأمريكية– ومستوى الأبحاث والتكنولوجيا السوفيتية آنذاك، وغيرها. وفيما يلي مقتطفات من بعض ما جاء في هذه الوثيقة.

تعريب : د. أسامة دليقان

«نظراً لأهمية العلم بالنسبة لنا، وأخذاً بالاعتبار أنّ الروس لا بد أنهم أيضاً يسندون إليه الأهمية نفسها، كان لزاماً علينا أنْ نبقى مطّلعين بأفضل ما نستطيع على حالة العلم السوفييتي. لكن القيام بذلك دونَهُ تعقيداتٌ ناجمة عن سلوك الشيوعيّين: بإسدالهم الستار الحديدي، وبسرّيتهم، وبتقييدهم لحركة الأجانب بالدخول لأراضيهم وضمنها، وبالضبط المحكم الذي يفلحون بممارسته على طواقمهم خارج البلاد لمنع الانشقاقات والتسريبات، وبمنهجياتهم في معالجة المعلومات الإحصائية... مما يشير إلى قصور استخباراتنا ويشكل مصدراً لآراء متنازعة لدينا. ومع ذلك ثمة قَدرٌ معتَبَر من المعلومات المتاحة لنبني عليها أحكاماً».
بعد ذلك تستعرض الوثيقة مصادر معلوماتها في عدة فئات: منشورات معلنة مفتوحة، عيّنات من المصنوعات السوفييتية، ودراسات استخباراتية، إضافة لمعلومات من «منشقين» عن السوفييت كان لافتاً أنهم قدّموا فائدة أقلّ من المرجوّة بالنسبة للأمريكان آنذاك وذلك بسبب ما يلي، بحسب الوثيقة: «المنشقون الذي خرجوا من روسيا كانوا يقدمون أحياناً بعض المعلومات المفيدة... ولكنهم كانوا بشكل رئيسي عمّالاً في المستويات الدنيا لا يعلمون سوى جوانب محدودة من العمل الذي كانوا مرتبطين به. وأحد الأسباب الكبرى لذلك هو العقلية الأمنية للروس التي جعلتهم يعزلون أبحاثهم السرّية بحيث لا يكون الاطلاع الكامل على المسألة متاحاً سوى لعدد صغير من الأشخاص في القمة. وكل الآخرين يكون عملهم أضيقَ نطاقاً ومرتبطاً بتعاملهم المألوف المباشر من أحد مكونات الناتج النهائي... فلا يعرفون من تفاصيل سوى تلك المرتبطة مباشرةً بالجزء الذي يعملون عليه».
ثم تحت عنوان «الملامح الأساسية للعلم الروسي» تتابع الوثيقة: «نظراً لواقع أنّ الاتحاد السوفييتي يعتمد لمهامه العلمية منهجياتٍ مختلفة تماماً عن تلك التي نستعملها في بلدنا وفي العالَم، فمن المرغوب فيه محاولةُ وصف وتحليل الملامح الأساسية لها». وأوّلها «السيطرة الحكومية» وقد ناقشَتْها الوثيقة تحت ثلاثة عناوين فرعية: التخطيط، واللامركزية، والتوسع.

التخطيط

إنّ تخطيط الدولة للمجهود العلمي لا يشمل فقط نطاق المعاهد والطواقم والمعدات والتمويل، بل المحتوى أيضاً؛ الاتجاهات والمشكلات التي سيعمل عليها والمواد والأهداف... وتلعب أكاديمية العلوم السوفييتية الدور الأبرز في هذا التخطيط... ويتم وضع البرنامج التكنولوجي (الأهداف الموكلة للصناعة والزراعة والنقل) بوساطة الخطط الخمسية...
ومن الاعتبارات البارزة المتعلقة بموقف الحكومة السوفييتية تجاه العلم والتكنولوجيا، ذلك التشجيع الكبير لهما. فنصيب المساعي العلمية من الثروة الوطنية قد يكون أكبر من أيّ نظير له لدى كل بلدان العالم في السنوات الأخيرة، بل إنه في الحقيقة الأكبر بشكل غير مسبوق بأيّ زمان على الإطلاق. وتُستمَدّ القوة الدافعة والمعيار الرئيسي لاتخاذ القرارات من مدى الفائدة العَمَلية للمجهود الذي يجري تقييمه... على سبيل المثال، تضمّنت «خطة العمل العِلمي والتقني» التي أعلنها لينين عام 1918، توسيعَ الطاقة الكهربائية بشكل هائل لكي تلائم الطلب المتزايد الذي سيُخلَق على مصادر الطاقة... وتم منح الأولوية القصوى لمشاريع طاقة واسعة وضخمة لدرجة أنّ الناتج الكهربائي ازداد 25 ضعفاً بين عامي 1920 و1940. وبعد ذلك، ورغم الحرب، فإنّ الرقم الذي كان عليه عام 1940 تمّت مضاعفتُه مرتين ونصف بحلول 1952. وكانت هذه خطوة كبيرة في تحويل الاتحاد السوفييتي من بلد زراعي إلى صناعي، خطوةً عظيمة بما يكفي لتسليط الضوء عليها من جانب ستالين في خطاب له في 9 فبراير/شباط 1946 أمام ناخبي «دائرة ستالين الانتخابية» بمدينة موسكو، حيث أشار إليها بأنها إنجاز خطوة عملاقة خلال فترة قصيرة على نحو مدهش.

اللامركزية

تضمّنت الخطة طويلة الأمد لتطوير الطاقة الكهربائية جانباً يدلّ على لامركزيّةٍ مضبوطة (مُتحكَّم بها) في العِلم السوفييتي. ومِن الأهداف الأساسية لهذه اللامركزية إلغاء الاتّكال المبالَغ به على أيّة منطقة في البلاد وبالتالي تحسين الأمن القومي. كما وتتمتع هذه اللامركزية بميزة إضافية هي تشييد الصناعة بالقرب من مصادر موادّها الخام، وبالتالي تخفيف الضغط على منظومة النقل غير الكافية كلياً. وكانت نتيجة هذه اللامركزية المُخطَّطة تطوير محاور جديدة للنشاط العِلمي: بأقصى الشرق في فلاديفوستوك، وبالأورال في سفيردلوفسك، وفي تبليسي بجورجيا، وفي يريفان بأرمينيا، وفي باكو بأذربيجان، وفي ألما آتا بكازاخستان. ففي هذه المناطق، تم إنشاء صناعات جديدة وتطوير موارد جديدة للمواد الأولية، وإتاحة مرافق جديدة للوقود والطاقة. وقامت المصانع الأكبر بتأسيس مرافق بحثية. كما أُنشئت معاهد بحث جديدة كبيرة في أماكن مثل دنيبروبتروفسك، سفيردلوفسك، نوفوسيبيرسك، وطشقند.

التوسّع

الجانب الثالث من العِلم السوفييتي يتمثل بتمويل زيادة ضخمة في أعداد الجامعات والكلّيات والطلاب. اتخذ الاتحاد السوفييتي على عاتقه بشكل متعمّد أنْ يحتلّ الصدارة عالمياً في المجالات العلمية والهندسية. فمن خلال برنامج دائم للترويج الشعبي والعام، تمّ إبقاء العِلم حاضراً بقوّة نُصب أعين عامّة الناس. ويتم تقديم أنواع كثيرة من التشجيع لجذب أفضل الطلاب كفاءةً... ويجري مسح للمنظومة التعليمية بحثاً عنهم... وتمثّل الهيبة التي يتمتع بها العالِم جاذِباً قويّاً. فأجور العلماء جيّدة وأكثر بـ 10 إلى 12 ضعفاً من وسطي الأجور. ويتمتعون بخدمات سكن أفضل، وتقديرات خاصة لعوائلهم، ونشاطات العطلات، وعلاوات وجوائز للمساهمات العِلمية المهمّة. وبشكل مقصود يتنامى عدد الخرّيجين سنوياً في العلوم بسرعة كبيرة، ويبلغ في الوقت الحالي [1954–1955] حوالي ضعف العدد المقابل له في الولايات المتحدة الأمريكية...
بالطبع فإنّ الكمّية لوحدها ليست معياراً كافياً، فماذا عن النوعيّة؟ إنّ كلّ الأدلة التي لدينا حول المناهج ومعايير التدريب وأداء الطلاب بعد التخرّج، وطابع ودرجة تعقيد أعمال البحث المنشورة... تشير إلى أنّ العلماء السوفييت هم على سويّة علمائنا... وبما أنهم يدرّبون ضعف عدد العلماء والتقنيّين الذين ندرّبهم نحن، فلا بدّ أنْ نستنتج بأنّهم يدرّبون أيضاً من علماء وتقنيّي الصفّ الأول ضِعفَ ما لدينا.

مثالان عمليّان

أجرى «مركز مخابرات التقنيات الجوّية الأمريكية» مشروع مسح واسع لكامل مجال علوم الفيزياء الأرضية (الجيوفيزياء) السلافيّة [السوفييتية] بين 1945 و1952، بهدف تقييم أبحاثهم على القوانين الفيزيائية الجوّية المؤثرة على تشغيل منظومات الأسلحة الجوية... وبمراجعة ما يربو على 800 من أبحاثهم المنشورة توصّلنا إلى النتيجة التالية:
«النشاطات السوفييتية في المجالات المختارة من علوم الجيوفيزياء، هي إجمالاً على مستوى يقارَن بما لدى الولايات المتحدة».. «وبما أنّ معظم البحث السوفييتي منصبٌّ بطبيعته على الأساسيّات، قد يكون الاتحاد السوفييتي في موقع جيّد لإحراز تطويرات مستقبلية في هذه العلوم».
وبإيراد مثال آخر، اعترفت الوثيقة الأمريكية بتفوق السوفييت آنذاك في مجال «الأتمتة» الذي وصفته بأنه «اجتذب مؤخراً اهتماماً في الولايات المتحدة، ويتضمن جوانب مثل الربط والميكانيزمات والميكانيك الخدمي والتحكم ودارات الكمبيوتر»، وأنّ العمل الاستخباري الأمريكي توصّل للنتيجة التالية: «التصميم الروسي للآليات يستند إلى أسسٍ نظريّةٍ أفضل من تلك المرتبطة بالممارسة المقبولة لدى كلٍّ من إنكلترا والولايات المتحدة».

معلومات إضافية

العدد رقم:
1091
آخر تعديل على الإثنين, 10 تشرين1/أكتوير 2022 09:25