ملاحظات مادّية عن تاريخ الفيزياء وبعض إشكالياتها الحديثة
*ماتياس هوفنر *ماتياس هوفنر

ملاحظات مادّية عن تاريخ الفيزياء وبعض إشكالياتها الحديثة

«مفهوم المادة ليس مفهوماً فيزيائياً بل مقولة فلسفية؛ تشمل المادة كل ما هو موجود خارج وعينا، ونعكس المادة في وعينا بواسطة الإدراكات الحسية. ويمكننا أن ندرك القوى بحواسنا، لذا فهي بحكم التعريف مادّية. إنّ أيَّ شخصٍ لا يستطيع التمييز بين هذه المصطلحات لن يتمكن أبداً من فهم الفيزياء» – بهذا المنطلق المنهجي المادي- الديالكتيكي الصحيح، يكون الكاتب الدكتور ماتياس هوفنر جديراً بالاطلاع على بعض ملاحظاته المنشورة في 13 أيار الجاري ضمن مقالٍ أطول بعنوان «الطاقة والكتلة والضوء» والذي نقدم فيما يلي مختاراتٍ منه.

تعريب وتلخيص: د. أسامة دليقان

محطات في تاريخ الفيزياء

المطلب الاجتماعي من الفيزياء هو دراسة إمدادات الطاقة في الطبيعة حتى نتمكن من اشتقاق العمليات التقنية منها. على الأقل كان هذا هو المطلوب من الفيزياء وقت دراستي لها قبل 50 عاماً. يبدو أن الفيزياء الحديثة بعيدة كل البعد عن ذلك هذه الأيام.
لقد ساد نمط التفكير القديم حول عالم مغلق ويتوسّع وقابل للوصف باستخدام معادلة. بات من الضروري انتهاج طريقة جديدة في التفكير تكون نقلة نوعية بالمعنى الذي أشار إليه توماس كون. يجب أن يُفهم العالم على أنه عملية ديناميكية في نظام مفتوح. [توضيح المعرّب: ألّف توماس صامويل كون كتاب «بنية الثورات العلمية» الذي تناول تحليلاً لتاريخ العلوم، وكان نشره سنة 1962 حادثة مهمة في تاريخ وفلسفة العلوم وعلم الاجتماع المختص بهذا الشأن].
إذا درست المصادر التاريخية عن علم التحريك (الديناميك) في الفيزياء، فيمكن للمرء أن يتعرف على مراحل مختلفة بعد بداية عصر التنوير. كان القرن 18 قرن الميكانيك، استفادت هذه الحقبة من حساب تفاضل وتكامل المقادير متناهية الصغر للتوابع الرياضية المستمرة التي قدمها نيوتن. كان القرن 19 قرن البحث في الكهرباء. في وقت مبكر من عام 1836، طور الإيطالي فابريزيو موسوتي فكرة النظرة الكهرومغناطيسية للعالم، والتي ألهمت مايكل فاراداي. وتم تعزيزها عبر عمل جوزيف لارمور (1897) وويلهلم وين (1900). حتى في ذلك الوقت، تم التعرف على أن الكتل تحمل شحنات كهربائية وأن جميع القوى من أصل كهرومغناطيسي. ومع ذلك، فإن نظرية الكهرباء التي طورها جيمس كلارك ماكسويل قسمت الفيزيائيين إلى أتباع نظرية الأثير الكهرومغناطيسي من جهة، والذرّيين من جهة ثانية الذين فضلوا قوى الجاذبية المؤثرة عبر مسافات طويلة، لأنه في ذلك الوقت لم يكن قد توضح بعد الفرق بين الشحنة المقيدة والحرة [توضيح المعرب: تقول المصادر بأن الشحنة الحرة غير مقيدة بالنواة ويمكن أن تحتوي على أية طاقة من الصفر، وطاقتها دائماً حركية بطبيعتها. أما الشحنة المقيدة بالنواة فيمكن أن يكون لها طاقات كمومية (كوانتية) فقط، وهي طاقة كامنة وحركية بطبيعتها مع كون الطاقة الكامنة أكبر دائماً].

هل ثوابت الفيزياء «مقدَّسة»؟

كان القصد من مؤتمر سولفاي الأول لعام 1911 في بروكسل، إيجاد حل وسط بين أنصار الأثير، الذين يمثلهم هندريك أنطون لورنتز الذي أراد تطوير نظرية ماكسويل، وأنصار الاتجاه الذري ويمثلهم ماكس بلانك وألبرت أينشتاين.
لم يكن معروفاً آنذاك أن فكرة أينشتاين كانت أقل إثماراً مما كان مفترضاً، لأنها كانت تتعارض مع ديناميكيات ماكسويل، وكان ثابت بلانك يشير فقط إلى عمل الإلكترون ولم يكن ثابتاً طبيعياً.
في مجال البصريات، لم يعد ثبات سرعة الضوء سارياً، لأن التغيير في اتجاه جبهة الموجة الضوئية ممكن فقط نتيجة للتغيرات في زمن العبور بين الداخل والخارج. لن يكون تأثير دوبلر موجوداً أيضاً لولا اختلافات زمن العبور. للبروتون تأثير مختلف بسبب كتلته الأكبر بمقدار 1836 مرة. بشكل عام، تواجه الفيزياء الحديثة مشكلة في فهم الكتلة. كما أن هناك ارتباكاً بمفهومَي المادة والقوة.
الزيادة الظاهرية في الكتلة الناتجة عن التلاعب بمعادلة الطاقة لأينشتاين ليست سوى المقاومة الميكانيكية في اتجاه الحركة، والتي يعارضها «الأثير»، أو بالأحرى، مجال القوة الكهرومغناطيسية، للجسم المتحرك.

حول مسعى «التوحيد» بين العلم والإيمان

على عتبة القرن العشرين، تمت إضافة عامل آخر مؤثر في الفيزياء. نتيجة للنهضة الصناعية، نظم العمال أنفسهم في نقابات غير كنسية. وهكذا رأت الكنيسة الكاثوليكية قوتها تتضاءل. أعرب البابا بيوس العاشر عن أسفه في رسالته العامة عام 1907 من أن العلم لم يعد يعمل كخادم للاهوت.
كان عمل القسّ لوميتر يهدف إلى التوفيق بين العلم والإيمان، على حد تعبيره، وقام بذلك عبر توحيد العلماء البارزين في القرن العشرين في الأكاديمية البابوية للعلوم، وبالتالي إعادتهم إلى سيطرة الكنيسة... فمن نموذج «الذرة العملاقة» الكوني الذي صممه لوميتر إلى نموذج «الانفجار العظيم» تم تطويره بشكل أكبر في النماذج القياسية للعالَم الكبير (ماكروكوزم) والصُّغريّ (الميكروكوزم) في الفيزياء، والتي قسمت الفيزياء الحديثة إلى نظرية النسبية وميكانيك الكم (الكوانتوم). عرّف ألبرت أينشتاين الطاقة على أنها ناتج جداء الكتلة في مربع سرعة الضوء التي اعتَقَدَ أنها ثابتة. ونظراً لأن شعاع الضوء، في نظريته، يسير مثل «محور صلب لعربة سكة حديدية»، كان على العالَم المُتَخيَّل أن ينحني مثل مسارات السكك الحديدية. من ناحية أخرى، عرّف ماكس بلانك الطاقة على أنها جداء «مقدار التأثير» في التردد، معلناً مقدار التأثير ثابتاً طبيعياً.
لو كانت الطاقة في الماكروكوزم مساوية للطاقة في الميكروكوزم (mc2=hv) لكانت الكتلة متناسبة طردياً مع التردد، وهو ما يتعارض مع التجربة. الغريب أن غالبية المجتمع الفيزيائي قد قَبِلَ هذا التناقض بلا شكوى وسعى لتوحيد النظريتين في نظرية «الجاذبية الكوانتية» حتى في القرن الحادي والعشرين.
سيكون من الأسهل أن نتخلى عن الفكرة المدرسية عن «ثباتِ الطبيعة» الذي «منحته لنا الآلهة»، ونأخذ في الحسبان بدلاً منه درجة ديناميكية الطبيعة على المستويات المختلفة. قدَّم عالم الرياضيات بينوا ماندلبروت مساهمة كبيرة في ذلك عندما أعاد إلى وعينا المعرفة القديمة بأن الطبيعة مقسمة جزئياً إلى أربعة أطوار. حتى الآن، كانت تعطى لاستمرارية حساب التفاضل والتكامل متناهي الصغر أولويّة على التأثيرات الفيزيائية عند حدود الطور، حيث يفشل الوصف الرياضي لأنه لا يمكن عندها تقويم التوابع. [توضيح المعرّب: حسب الموسوعة البريطانية تُستخدم عملية تسمى التقويم rectification في تحديد طول المنحني، عن طريق تقسيمه إلى سلسلة من القطع المستقيمة معروفة الطول، ونظراً لأن التكامل المحدَّد لتابعٍ رياضي ما يحدِّد المساحة الواقعة أسفل منحنيه، فلا يزال يُشار إلى التكامل أحياناً باسم التربيع quadrature].
وفق تصريحات أينشتاين ونسبيّته لا يهم ما إذا كان المتحرّك هو القطار أم سكّته، على الرغم من أنّه حتى البابا يوحنا بولس الثاني عاد الاعتبار لغاليليو عام 1992 بعد 359 عاماً مقراً بأنّ الأرض هي التي تدور حول الشمس. التجربة الفكرية المعروفة باسم «قطة شرودنغر» حول خصائص التجارب الكوانتية، تتبع الخط الفكري نفسه، حيث توصف القطة وكأنها «زومبي» (ميتة- حية) في الصندوق حتى يقرر المراقب فقط ما إذا كانت حية أو ميتة بعد فتحه. من المفهوم أن مثل هذه العبارات وما شابهها مزعجة للأشخاص الذين يفكرون منطقياً من ناحية، ومن ناحية أخرى جذبت الباطنيّين بطريقة سحرية. حسناً، لا يزال هذا هو حال العلم الأكاديمي في هذه الأيام.
يمكننا القول إنّ حلم القسّ لوميتر في التوفيق بين العلم والإيمان قد تحقق، على الأقل في الفيزياء النظرية. وتحققت وصية البابا بيوس العاشر، المكتوبة في رسالته العامة لعام 1907، وأولئك الذين يرغبون بممارسة المهنة يجب عليهم أن يلتزموا بمبادئ التدريس الأكاديمي. تراقب الأكاديمية البابوية للعلوم نقاء هذا التدريس من خلال نظام المنشورات «المحكَّمة» عبر «مراجعة الأقران» peer review الذي تحركه المصالح، والذي يتمتع الآن بتأثير عالمي ولكنه يتعرض أيضاً للنقد بشكل متزايد.

* الدكتور ماتياس هوفنر باحث ألماني متطوع في مشروع Thunderbolts (وهو مشروع علمي يعتقد أنصاره بأنّ التيار السائد في الفيزياء الحديثة ينتقص من أهمية القوى الكهرومغناطيسية في الطبيعية لصالح قوى الجاذبية، ويقدمون تفسيرات عن منشأ كهرومغناطيسي للجاذبية مع انتقادات كبرى لنسبية أينشتاين وأفكار الانفجار العظيم والثقوب السوداء، ولذلك كثيراً ما يهاجَمُ أنصار هذه المدرسة تحت خانة «العلم الزائف» من جانب التيار السائد في الفيزياء النظرية، على الرغم من نجاحاتهم في الممارسة التطبيقية). قام هوفنر بدراسة الفيزياء من عام 1964 حتى 1970 في لايبزيغ بألمانيا، وتخصص في تكنولوجيا القياس التحليلي للنظائر المشعة، ثم عمل في شركة Carl Zeiss Jena حتى عام 1978 على تطوير التحليل الطيفي لمجهر الليزر حيث كان مسؤولاً عن تطوير برمجيات تقييم البيانات الطيفية. حصل على الدكتوراه بالهندسة من جامعة فريدريش شيلر وعمل فيها 15 عاماً كمساعد علمي. بعد بضع سنوات من التغيير في ألمانيا الشرقية، عمل مدرّساً مستقلاً لعلوم الكمبيوتر في السنوات القليلة الماضية قبل تقاعده.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1072
آخر تعديل على الإثنين, 30 أيار 2022 12:34