دماغِنا العاقل أصغرُ بمليون سنةٍ ممّا كنّا نظنّ!
تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان

دماغِنا العاقل أصغرُ بمليون سنةٍ ممّا كنّا نظنّ!

وفقًا لدراسة حديثة بعنوان «الدماغ البدائي للإنسان الباكر»، نُشرت في مجلة العلوم «ساينس»، في 7 نيسان الجاري، كان ما يزال لدى البشر الأوائل أدمغة شبيهة بتلك التي لدى القردة العليا عندما بدأت موجات انتشارهم من إفريقيا. كما وجدت الدراسة أنّ البشر المعاصرين لم يطوّروا عضو التفكير المتقدّم «الدماغ العاقل» إلّا مؤخّراً نسبيّاً، منذ 1.7 – 1.5 مليون سنة فقط. وهذا يعني أن الدماغ الفريد للإنسان الحديث قد تطور بعد أكثر من مليون سنة من ظهور جنس الإنسان، وبعد هجرة الإنسان المنتصب Homo erectus الأول من إفريقيا. ويقلب هذا الاكتشاف النظرة التي كانت سائدة سابقاً، والقائلة بأنّ الفصّ الجبهي لدماغنا (الجزء الذي يعالج المهام المعرفية المعقدة، والتفكير الاجتماعي واستعمال الأدوات واللغة) تطوَّرَ أثناء مرحلة الانتقال من «أسترالوبيثيكس» إلى الإنسان (منذ نحو 2.8 – 2.5 مليون سنة).

رفع «بصمات» أدمغة أسلافنا

تتكون الأدمغة من أنسجة رخوة ولا تتحجّر إلى أحافير، ولذلك لجأ الباحثون إلى دراسة تضاريس الوجه الداخلي للجماجم المتحجّرة التي كانت تحوي الدماغ، ليستنتجوا منها «طبوغرافيا» هذا العضو وكيف تطور تشريحياً.

وقارن العلماء بنية الأدمغة «البدائية» أو «المبكرة» ببنية دماغ الإنسان الحديث، ونظروا إلى الأنواع الحية الأقرب لنا، القردة العليا، بما في ذلك 81 شمبانزي، و27 بونوبو، و43 غوريلا و32 أورانغوتان (سِعلاة)، وأيضاً مع 110 من جماجم البشر المعاصرين. ثم درسوا التضاريس الداخلية لحوالي 40 جمجمة من أنواع بشرية قديمة، بما فيها «أسترالوبيثكس سيديبا» والإنسان المنتصب و«إنسان ناليدي»، وحدَّدوا درجة «البدائية» أو التقدم في أدمغتهم بمقارنتها بنظيراتها لدى القردة العليا والإنسان الحديث.

وقالت الباحثة المشاركة بالدراسة، مارسيا بونسي دي ليون، وهي عالمة بـ«الأنثروبولوجيا الأحفورية» في جامعة زيورخ السويسرية، إنه عندما تصوَّر الباحثون هذا المشروع ​​أواخرَ التسعينيات، شعروا أنه مهمّة مستحيلة، إذ لم تكن بحوزتهم آنذاك أيّة طرائق موضوعية لمعرفة بنية الدماغ من دراسة الوجه الداخلي للقَحْف (الجمجمة). ولكن بعد ذلك، سمح تطور تكنولوجيا التصوير المقطعي المحوسَب scan CT، وغيرها، للباحثين بالحصول على معرفة كهذه بالنسبة لأدمغة الأنواع الحية والمعاصرة. الأمر الذي دفع هذه العالمة وزملاءها للتفكير: لماذا لا نستخدم التصوير المقطعي أيضاً لدراسة الجماجم المتحجّرة؟

وهكذا استطاعوا اكتشاف الانطباعات أو «البصمات» التي تركتها تلافيف الأدمغة القديمة وأثلامُها وبعض الأوعية الدموية المحيطة بالدماغ. وكان كشفها عملاً شاقاً كما قال الباحث المشارك كريستوف زوليكوفر (المختص بكل من الأنثروبولوجيا الأحفورية والبيولوجيا العصبية).

وبينما كان أعضاء الفريق يشقّون طريقهم ببطء عبر التضاريس الأحفورية للجماجم، رأَوا تحولات تطورية تتكشف أمامهم. وكان من أبرزها ملاحظة أنّ أحد المعالِم التشريحية الدماغية وهو «الثلم أمام المركزي السفلي» inferior precentral sulcus أصبح ينزاح، مع ارتقاء أدمغة البشر أكثر فأكثر، نحو الخلف إلى ما وراء مَعلمٍ تشريحي آخر اسمه «الدَّرَز الإكليلي» coronal suture (بين عظام الجمجمة). وهذا الانزياح نتيجة وعلامة مهمّة على التوسّع الارتقائي (التطوُّري) لفَصّ الدماغ الجبهي السفلي، والذي يحوي منطقة بروكا (أو قبّة بروكا Broca cap) المعروفة بوظيفتها المهمة في إنتاج اللغة والكلام، وهي من القدرات المعرفية العليا المميزة للإنسان العاقل المتطوِّر.

5 جَماجمَ ثمينة

أقدم بقايا لجنس الإنسان (الهومو homo وقد نستعمل كلمة «البشر» بدلاً منها هنا) في السجلات الأحفورية تعود إلى 2.8 مليون سنة، اكتشفت في «ليدي جيرارو» في إثيوبيا. لكنها بقايا بلا جماجم. ولم نعثر حتى الآن على أيّة جماجم بشرية تعود لفترة المليون سنة التالية بعد ذلك، وفق ما قالت أميلي بيودي، عالمة الأحياء القديمة في جامعة كامبريدج. فجوة المليون سنة هذه أضافت تعقيداً على اللغز: متى تطوَّر دماغ مُتقدّم لدى الهومو؟

لكن الباحثين قالوا: إنّ تحليلات جماجم الإنسان المنتصب ساعدت على فتح قُفل اللغز، ولا سيّما بفضل مجموعة نادرة من 5 جماجم لأفراد ماتوا بين سن المراهقة والشيخوخة، سمّيت «إنسان دمانيسي» نسبةً لموقع اكتشافها في جورجيا، ويقدّر عمرها بنحو 1.8 مليون سنة ومحفوظة جيداً. ويُعتقد أن أفراد دمانيسي من أوائل البشر الذين غادروا إفريقيا منذ 1.7 مليون سنة.

تطبيق الطرائق الجديدة للدراسة الحديثة التي نتناولها هنا، على عيّنات جماجم «إنسان دمانيسي» أدّت إلى مفاجأة؛ إذْ اكتشف الباحثون الآن أنّ العينات الخمس المذكورة لم تكن تتمتع بالانزياح الخلفي لـ«الثلم أمام المركزي السفلي»، أيْ: إنّ فصوصهم الجبهية السفلية لم تكن قد توسّعت بعد، بل كانت «بدائية» كما في القردة العليا تقريباً. وتنطبق بدائية فصوصهم الجبهية هذه أيضاً على أسلافهم الأسترالوبيثيكس وكذلك «الإنسان الماهر» والإنسان المنتصب المبكر، وفق ما قال الباحث المشارك بونس دي ليون.

ومع ذلك لم يمنع وجود فص جبهي شِبه قرديّ الإنسانَ المنتصب من التمتع بسمات مميزة. فحسب زوليكوفر «هؤلاء الأشخاص ذوو العقول البدائية كانوا قادرين على مغادرة إفريقيا، والتكيف مع المناخ القاسي في أوراسيا، وإنتاج مجموعة متنوعة من الأدوات، والحصول على اللحوم وتقديم الدعم لأعضاء المجموعة المسنين» – أيْ: إنّه يصف لنا مجتمعاً مشاعيّاً بدائياً.

وهكذا استنتجت الدراسة، وخلافاً للفكرة السائدة سابقاً، أنّ وجود فص جبهي معقّد لم يكن شرطاً ضرورياً لانتشار البشر الأوائل خارج إفريقيا. ولكن الباحثين ما زالوا يضعون احتمال أنْ يكون الفصّ الجبهي المعقّد قد بدأ التكوّن في إفريقيا، حيث وجدوا دليلاً على منطقة الدماغ المعاد تنظيمها في جماجم بشرية من إفريقيا، وكذلك من جنوب شرق آسيا، يعود تاريخها إلى 1.5 مليون سنة وما بعد.

الاكتشاف الجديد ونظرية إنجلس

الاكتشاف المهم الذي توصلت إليه الدراسة بأنّ «عضو وعينا» بخصائصه التشريحية الجبهية المتطورة إنما يعود إلى 1.5 – 1.7 مليون سنة، وليس إلى 2.8 – 2.5 مليون سنة كما كان يُعتَقَد سابقاً، لا يتناقض مع نظرية فريدريك إنجلس حول «دور العمل في تحوّل القرد إلى إنسان» – نظرية الدور الحاسم لصنع الأدوات والعمل في نشوء الوعي البشري– بل على العكس، فهذا الاكتشاف يلقي أضواء جديدةً على صحّة نظرية إنجلس ويغنيها بتفاصيل وأطر زمنية أكثر تحديداً.

قد لا تكون جديدةً الأدلة على الأسبقيّة التاريخية لصنع أدوات العمل (والبدء بعملية العمل) على نشوء وتطوّر الوعي، إذ إنّ «الأدوات الحجرية صُنعت منذ 3.3 مليون سنة» كما يقول عالِم الحفريات فريد سبور من «مركز بحث التطور البشري» التابع لمتحف التاريخ الطبيعي في لندن– وهذا يعني في زمن سابق على أقدم بقايا بشرية مكتشفة في إثيوبيا (قبل 2.8 مليون سنة) وبالتالي قبل كلّ مراحل ودرجات تطوّر الوعي وعضوه «الدماغ».

ولكنّ مما هو جديد بالدارسة على ما يبدو، اكتشاف إلى أيّ مدى قد تكون طويلة الفترة الفاصلة بين البدء التاريخي بصنع الأدوات و«ظهور» الوعي البشري الحديث (والتي إذا حسبناها وفق ما ورد أعلاه، فستكون ما لا يقل عن 1.5 – 1.8 مليون سنة) دون أنْ يتعارض هذا مع صحّة كونها «قفزة نوعية/ ثورية» بعمر التاريخ، ولا مع كونها تتكوّن من مراحل فرعية وتدرجّات تراكمية كمّية خاصّة بها (مثل التضخّم التدريجي للفص الجبهي السفلي ومنطقة بروكا).

ومن النتائج المهمّة أيضاً لهذه الدراسة، أنها لم تكشف فقط أهمية توسّع «قشرة المخ الجبهية الأمامية السفلية» بل وأنّ هذا يتمّ أيضاً «مع توسّع القشر الجداري الخلفي والقذالي، مما يدل على أنّ باحات الترابط القشرية الأمامية والخلفية تتطوّر بالتناغم مع بعضها وليس بالتعاقب». ومن المفيد هنا أنْ نتذكّر تأكيد إنجلس على أنه رغم تمايز مناطق الدماغ فإنّه يتمتّع بوحدة ديالكتيكية تشريحياً ووظيفياً، كما ورد في سياق انتقاد إنجلس لبعض مذاهب «الفرينولوجيا» في عصره (انظر مقاله المهم «المادية وعالَم الأرواح» في مخطوطه «ديالكتيك الطبيعة»).

هذا وقدمت الدراسة أيضاً دليلاً إضافياً على أنّ تطوّر الإنسان لم يكن خطياً أو انسيابياً، عندما قالت: «إنّ الأنماط الزمانية والجغرافية للتنظيم البدائيّ والمشتقّ [المعقَّد] لدماغ الهومو الباكر لا يمكن تفسيرها بسيناريو انتشار/ هجرة مفرد، بل لا بدّ أنّها انطوت على تعقيد مكاني- زماني أكبر».

معلومات إضافية

العدد رقم:
1013
آخر تعديل على الإثنين, 12 نيسان/أبريل 2021 14:00