أن تكون سوياً يعني أن تخضع
مروى صعب مروى صعب

أن تكون سوياً يعني أن تخضع

تميزت الحرب العالمية الثانية بالتجارب العلمية المباشرة على البشر، كالذي قامت به ألمانيا النازية واليابان (في الصين) والولايات المتحدة من خلال التجارب النووية والقنبلة النووية نفسها.

وكانت هذه التجارب تجرى على البشر في معسكرات الإعتقال مباشرة. وكان لها إنتاج لبعض من المعرفة التي نمتلكها اليوم حول الجسد وعلاقة أعضائه ببعضها. بينما تميزت المرحلة اللاحقة– توسع الرأسمالية في المرحلة الليبرالية- بالتجارب غير المباشرة على البشر، إما من خلال الفيروسات أو الأوبئة الجديدة، أو الأسلحة الجديدة أو من خلال التجارب العلمية والتصنيفات غير الإنسانية للعلوم.
فبينما نعيش انهيار الرأسمالية وانهيار «حلمها» (أو كابوسها) وأفقها الذي روّجت له، وبالتالي انهيار الحياة كما تعودنا عليها وسعينا «وهماً» من أجل تحقيقها، وتحطّم الآمال والقيم والمعاني التي حملتها هذه المرحلة. انهارت الأسس الاجتماعية التي تحمل هذه القيم، وكذلك الأمر بالنسبة للتركيبة النفسية للإنسان، بينما تتحمّل تركيبته الجينية الكثير من الضغط من حيث العامل النفسي الضاغط على البنية الجسدية وأجهزتها، أو من حيث تسارع تغيّر نوعية الحياة أو من حيث ارتفاع نسب التلوث. وهذا الانهيار حمل معه غلبة لأمراض نفسية وجسدية واجتماعية تشكل عامل قلق آخر مضاف إلى الانهيار القائم، مثل السّرطان أو الاكتئاب كشكل من الاغتراب أو غيرها. وحمل معه اضطرابات جديدة أو انتشار لها بشكل كبير، فيما لا زال العلمُ السّائد يحاول خوض تجاربه لتحديد المشكلة ولتحديد الحل. وفي حلوله نجد الكثير من «لا نعلم ما السبب»، و«لا نعلم كيفية عمل هذا أو ذاك من العوامل»، ولكنه مع ذلك وبالرغم من «لا أدريّته» يضع قوانينه ويصنف أمراضه وحلوله على البشرية وكأنها الحقيقة المطلقة.
من بين هذه «الأمراض» المستجدة هو التوحد الذي ينتشر بشكل كبير بين الأطفال. والذي مع اضطراب آخر هو «فرط الحركة» (أي القطب النقيض من التوّحد) يشكلان أكبر نسبة من التشخيصات عند الأطفال. التوحد هو عبارة عن عدم تأقلم مع المجتمع، وله عدة مستويات، فالطفل غير القادر على التكلم في عمر معين، أو مشاركة غيره من الأطفال اللعب، أو التعبير الصحيح– نسبة للعمر- يصنف على أنه متوحد.
لا يوجد للتوحد سبب واضح. يُنسب جزء منه إلى طفرة جينية، متوارثة أو تحدث قبل التلقيح، والأسباب الأخرى، مثل عمر الوالد، أو أي ضغط أو تعرض لأشعة أو تلوث عند الحمل، أو بكونه تركيبة من العوامل البيولوجية والمحيطة بالطفل أثناء الحمل وبعده. ولكن جميع هذه الأسباب ليست مؤكدة، ولا نعلم (حسب العلم السائد) أي من الجينات تتحمل مسؤولية هذه الطفرات. ولكن المهم في تحديد هذه الأسباب هو أن نعلم على أي أساس قد استُنتجت هذه الأسباب. فالبحث فيها مثلاً يتم عبر إيجاد علاقة ارتباط بين «عمر الوالد وعدد الأطفال المتوحدين»، أي عبر عملية حسابية بسيطة ميكانيكية تعني وجود ارتباط بنسبة معينة، فـ X يؤدي إلى Y، أو عبر تجارب تجرى على الحيوانات. أي أن أياً من هذه التجارب لا يحمل علاقة مباشرة بين السبب والنتيجة. وعلى مستوى آخر من التبسيط يُمكن لأخصائي حسب التوجه السائد أن يشخّص حالة التوحد عند الطفل من عمر السنة ونصف. تخيلوا طفلاً بالكاد تعلم المشي وبعض الكلمات يتم تشخيصه على أنه متوحد! بالكاد يعلم ما هو صحيح وما هو غير صحيح، وما هو مسموح اجتماعياً وما هو غير مسموح، وتجري قولبته على أنه متوحد. فيجري تحميل هذا الطفل عبء مرض نفسي طوال حياته. يُحمّل عبء عدم التأقلم وعبء الاغتراب النفسي. وتُحمَّل عائلته هذا العبء أيضاً والشعور بالذنب من أنهم قد يكونون هم السبب في ذلك.
والتوحّد مرض مستجدّ، أي أن الأطفال الذين لم يستطيعوا التأقلم السريع مع محيطهم قبل بضعة أعوام لم يكن تصنفهم على أنهم متوحدون. ولكن العلم السائد قد قرر أنه إن لم تكن مثل السائد فإنك متوحّد، وبهذا يتم تصنيف آلاف الأطفال سنوياً. فبحسب تقارير منظمة الصحة العالمية: إن طفلاً من كل 161 في عام 2019 هو متوحّد. وبهذا قد اشتغلت مؤسسات النظام الرأسمالي على إيجاد حلول، وتدريب، ومعاينات، وأبحاث، فأنتجت أموالاً طائلة، كما تنتج الأموال من العلاجات السرطانية أو من شركات الأدوية.
لم يتم التطرق بشكل واسع إلى التوحد من قبل العلم النقيض للعلم السائد، أي الاشتراكي، كما لم يتم التطرق إلى العديد من الأمور أو التصنيفات الأخرى. هذه إحدى الأسباب التي تسمح للعلم السائد بالتحدث بأريحيّة عن الأمراض وحلولها. وإذا حاولنا ذلك يمكن أن نقول: إذا كان تطور الوعي وسرعة تقدمه هو نتيجة المحيط بكل ما يحمل، وإذا كان هذا المحيط وهذا الوعي يحملان علاقات وممارسات اجتماعية معينة، ويقدمان «الصحيح والخاطئ» و«المسموح والممنوع» في المجتمع، بالإضافة إلى القيم الاجتماعية، فإن عدم التأقلم هو إما أن الوعي تقدّم على المحيط بثوريّة، أو أن المحيط بسبب كوابحه غير قادر على تأمين الظروف لتقدم الوعي. وهذا كله يعني أنه بدلاً من محاولة «ترويض» البشر على ممارسات معينة، علينا تغيير المحيط والظروف. فالتوحد ليس مرضاً نفسياً أو اجتماعياً. إنه فقط تصنيف قد فرضه بعض ممن يعتبر نفسه مالك القوة العلمية على الأفراد وحاجاتهم. وحلّه هو جزء من حل اضطراب المجتمع والاغتراب الذي نعيش، بعيداً عن ذاتنا وعن غيرنا.

معلومات إضافية

العدد رقم:
948