الشخصية المأزومة والرأسمالية
مروى صعب مروى صعب

الشخصية المأزومة والرأسمالية

أنتجت فترة الحرب اللبنانية على الصعيد الاجتماعي والوعي الذهني والنفسي حالات أثرت على تركيبة وطبيعة المجتمع إلى اليوم. بخاصة أنها لم تحل نهائياً، بل خلصت إلى تحولات مؤقتة ما دفع إلى استمرارها بطرق أخرى مما نراه من عدم استقرار أمني وسياسي في لبنان. وكَّونت هذه الحرب معتقدات أو أفكاراً في أذهان اللبنانيين ورَّثوها للأجيال اللاحقة، طبعاً مع خصوصية استمرار الحرب الأهلية بأشكال مختلفة واستمرار انعكاساتها مما ساعد على هذا التوريث المعتقدي.

وشكلت هذه المعتقدات شخصيات أصبحت رموز «مثالية» يُقتدى بها، ورفّعت فوق مرتبة النقد أو المحاسبة. فخصوصية وتعقيد تركيبة النظام اللبناني كبلد ساعد في تشكيل أمتن لهذه الشخصيات كما ساعد على استمرارها. ترافق هذا مع صعود الرأسمالية ومع ظهور نمط للشخصية الليبرالية.
أما في العالم فكان التأثير العكسي عند توسع الرأسمالية وسيطرتها على العالم قد تقلص تأثير أو بروز شخصيات تمتلك ميزة ما، لأن أغلب الشخصيات التي حظت بشعبية عالمية عالية كانت إمّا يسارية أو من قوى التحرر الوطني، والتي تراجعت أيضاً مع تقدم الرأسمالية ولم تنتج الجديد لأسباب موضوعية وذاتية.
وكون الرأسمالية حملت قيم ونمط عالم جديد أنتجت شخصياتها التي تتطابق مع هذا العالم وضرورة المنافسة والاستغلال، والتي يمكن اختصارها بشخصية الرؤساء الأمريكيين مثلاً.
ولهذا عدة عوامل، أولاً: إن النظام الرأسمالي مبني على المال والاستغلال وعلاقات السوق لذا لا بدَّ من المنافسة والقتال على المواقع والمال، ما أنتج شخصية متلاعبة وغير صادقة. ثانياً: إن التخصص الضيق الذي كرسته الرأسمالية في مجالات العلم أدى إلى تراجع في المعرفة العامة، وبالتالي الشخصية التي تمتلك معرفة عامة وموسعة لم تعد تجد لها مكاناً. وثالثاً: إن المنافسة أدت إلى بروز التطرف تجاه الآخر الذي يشكل باستمرار عُنصر خطر. وهذا دفعها إلى إغراق العالم بنماذج الخير والشر حفاظاً أو تكريساً لنفسها كمخلص للبشرية، ما نراه في الأفلام الهوليوودية. بالإضافة إلى الحروب التي لجأت إليها الرأسمالية إما لكي تحافظ أو تثبت سيطرتها، أو لكي تضرب كل قوة تدعو إلى الانفكاك عنها، ما رفع من نسبة التفرقة بين الشعوب، وما أعطى أفضلية لشعب على الآخر أو لأحقية الأفضلية في كافة المجالات. وهذا النمط من الثراء والفوقية ثّبت في عقول وحياة الناس ضرورة الملكية والثراء، لكي يعكس وضعاً اجتماعياً وأفضلية ما على غيره، فأصبح عدو الإنسان هو الإنسان نفسه، لِكون الرأسمالية أرست منطق قدرة الإنسان الفردية على حساب تغيير وضعه إلى الأفضل. وبالتالي، إشاعة وهم تحكمه الفردي بثرائه وبرفع مكانته الاجتماعية، وإشاعة وهم آخر، هو غياب دور النظام الرأسمالي في هذا التحكم. وللسيطرة على هذا المنطق كان لا بدَّ للرأسمالية من تفريغ العالم من المعرفة وحصرهاً بفئة معينة، مثلاً: حصر العلم والسيطرة عليه، ما عكس جهلاً علمياً في المجتمعات كافة، نراه في التخبط اليوم في الانعكاسات النفسية أو الجسدية للأمراض أو للاضطرابات.
أما بعد تراجع الرأسمالية الذي نعيشه اليوم والتسطيح والعنصرية والمنافسة التي بثتها وتربّت عليها أجيال بأكملها، وأصبح الفراغ والتسطيح هو ما يحكم الشخصية في النمط الرأسمالي، الذي تمثله أو تحاول عكسه شخصية دونالد ترامب. والذي حصل على شعبية عالية إما في الولايات المتحدة أو خارجها، أو حتى عبر بعض خصومه الذين يتهمونهُ بالجهل أو التخلف في قراراته ومواقفه. بينما هو يجسد تراجع الرأسمالية وتخبطها وفقدان المثقفين العضويين في المجتمع، الذين تحول بعضهم إلى نخب تتعاطى مع المجتمع من خارجه، وتحاول تناول قضاياه من داخل التركيبة الرأسمالية. وانقسمت الشخصية الممثلة أو المؤثرة للنظام الرأسمالي إما إلى تلك التي تتعاطى مع «النخب» الليبرالية وتتحدث باسم العلم حتى لو كان حديثهاً يشبه الهراء في الكثير من الأحيان، مثلاً: جوردان بيترسون وهو عالم نفس كندي أو جيجيك أو الون ماسك مالك شركات Space X التي تدعو إلى احتلال الفضاء، والتي تخاطب الفئة الغنية والنخبوية في المجتمع الليبرالي. تماماً مثلما تخاطب النسوية الجديدة أو علم النفس الإيجابي أو منظمات حقوق الحيوان، محولة الأزمة إلى أزمة فقراء وتخلف بالتحديد. أو تلك التي تتحدث بشعبية وبلغة الشارع في خطابها، أمثال: دونالد ترامب، الذي أيضاً أبرزَ الفراغ والتسطيح العالي في تعاطيه مع القضايا، وبالتالي لجأ إلى التطرف والعنصرية واستعمل النفس القومي.
بالعودة إلى انعكاس الحرب اللبنانية وطبيعة التركيبة السياسية اللبنانية على اللبنانيين، فإن الرموز مقبولة عند مؤيديها حتى لو تعاطت هذه الشخصيات من خلال الشخصية النخبوية أو الشعبوية، لكون التخبط السياسي والضياع في تحديد هوية وموقع لبنان بالنسبة للخريطة السياسية العالمية ساعد في تقبل هذه الشخصيات، التي لا يوجد بديل عنها. فكما يقول مصطفى حجازي وهو استاذ علم اجتماع لبناني: إن القبول بما هو موجود يشكل راحة لكونه معروفاً، أما التغيير فهو مصدر قلق بالنسبة للشعوب المسيطر عليها، والتي تعودت على نمط الهرمية الاجتماعية للقوي على الضعيف.
ولكن مع تراجع الرأسمالية لا يمكن لهذا التسطيح أن يستمر بالحكم، فهو من جهة متخبط وغير قادر على الحسم، ومن جهة أخرى يؤدي إلى تفكك وانهيار للمجتمع وللطبيعة ككل، كما يحصل في القوى السياسية اللبنانية، التي لم تستطع إلّا الاعتراف بالفساد لكون الانهيار أسرع وأكبر من قدرتها على تجاهله. ولهذا يجب أن نعيد قراءة موقفنا تجاه هذه الشخصيات، التي حتى لو أظهرت قوة ما، ولكنها تظهر ضعفها في الوقت نفسه. ولكي نخرج من دوامة التراجع والانهيار الشامل لا بدَّ لنا من التسلح بالنقيض الجذري.

معلومات إضافية

العدد رقم:
927