وصول البشر لآسيا 3 | زيجات محتملة، ولكن!

وصول البشر لآسيا 3 | زيجات محتملة، ولكن!

ما الذي حدث عندما التقى أشخاص من مجموعات إنسيّة متنوعة في آسيا بعضهم ببعض؟ يمكننا جمع بعض الأدلّة باستخدام علم الجينات وعلم الآثار والأحافير نفسها. تظهر عدّة دراسات حديثة بأنّ البشر الحديثين والنياندرتال والدينيسوفيين قد تزاوجوا بشكل منتظم، وأنّ نوعاً مجهولاً (الإنسان المنتصب في الغالب) ربّما شاركهم حمضه النووي أيضاً.

تعريب: عروة درويش

إنّ نِسب الحمض النووي للنياندرتال لدى الإنسان الحديث منخفضة عموماً، وهي في حدود 1 إلى 4%، وهو ما يشير إلى أنّ البشر والنيادرتال قد تزاوجوا في فترة تعود لـ270 ألف عام مضت. لكنّ الحمض النووي للنياندرتال لدى «أويس Oase 1»، وهي الأحفوريّة الموجودة في كهف أويس في رومانيا وعمرها حوالي 40 ألف عام، تقدّر نسبته بحوالي 9%. يعني هذا بأنّ التزاوج قد تمّ في فترة أكثر حداثة، وربّما يسبق ولادة أحفوريّة أويس بما لا يزيد عن أربعة إلى ستّة أجيال. وعليه فإنّ الكثير من تاريخنا التطوري موسوم بالتزاوج مع إنسان النياندرتال. ربّما يعطينا هذا الأمر إشارة لما حدث عندما التقى الإنس بعضهم ببعض.
لكن إن حدث تزاوج مختلط، فكيف بدا شكل نسل تزاوج النياندرتال مع الإنسان الحديث؟ هل حظي الطفل بذقن بارزة وبجمجمة كروية (ليعكس سمات البشر الحديثين)، وحواف حواجب واضحة وعظم قذاليّ مدوّر في مؤخرة رأسه (كصفات مرتبطة بالنياندرتال)؟ يجادل البعض بأنّ الأحافير المكتشفة في كهف جيرين في جنوبي الصين تملك كلتا صفات إنسان منتصف العصر الحديث الأقرب، وصفات البشر الحديثين، وهو ما يشير إلى الوصول المبكر للبشر الحديثين للمنطقة. إنّ مسألة تحديد شكل الهجين هي أكثر صعوبة من القيام ببساطة بأخذ نصف الصفات المرئيّة لأحد الوالدين ونصفها الآخر من الثاني، ثمّ مزجهما بعضهما ببعض. تعرض الدراسات عن هجائن الرئيسات غير البشريّة سياقاً ملائماً إلى حدّ ما، فبعض الصفات غير الاعتياديّة (مثل سنّ إضافي) غير الموجودة في الأهل المباشرين، قد تظهر في الأسلاف المنحدرين منهم. ومع ذلك تبقى التساؤلات قائمة حول كيفيّة تجلّي نتائج هذا التزاوج المختلط بين الأنواع، أو بين السلالات الفرعيّة للعيان.
ما هي الأشياء التي تتبادلها مجموعات الإنس المختلفة عندما يتزاوجون، إضافة إلى الجينات؟ هنا يأتي دور السجل الآثاري للمساهمة في الوصول لإجابات. تتضح التصرفات الرمزيّة عبر صباغ حجر المُغرة والأصداف المثقبة وقلائد الحصى وغيرها الكثير، فوجود مثل هذه الأشياء يشير إلى استخدام الإنس لرموز مصنوعة ببراعة. لطالما ساد الاعتقاد بأنّ هذه المنتجات حصريّة للبشر الحديثين، وأنّها ليست جزءاً أساسياً من المخزون السلوكي للإنس الآخرين. الغريب في الأمر عدم وجود دلائل تربط البشر الحديثين الأقدم الذين ظهروا في آسيا قبل الهجرة الكبيرة من إفريقيا قبل 60 ألف عام، بالسلوك الرمزي.
وهناك ملاحظة أخرى مثيرة للاهتمام: فقبل أن يتمّ اكتشاف الحمض النووي للدينيسوفيين ثمّ الحمض النووي للنياندرتال في كهف دينيسوفا، كان الكهف شهيراً بالنسبة لمجتمع الآثاريين بسبب وفرة الأدلّة فيه على السلوك الرمزي العائد للعصر الحجري القديم «Upper Palaeolithic» (مثل: المصنوعات المثقبة التي يمكن عند جمعها تشكيل قلائد وأساور). يثير هذا السؤال التالي: من هم الذين خلّفوا وراءهم هذه المصنوعات؟ هل كانوا الدينيسوفيين أم النياندرتال أم البشر الحديثين الذين وجدوا في الكهف؟ إن كانت إحدى المجموعات الأقدم هي من خلّفت وراءها هذه المصنوعات، فهل هذا يعني أنّها كانت قادرة على مثل هذا السلوك الرمزي؟ إن كان البشر الحديثون هم من خلّفوا المصنوعات، فهل يعني هذا أنّ المجموعات الثلاث قد شغلت الكهف بشكل متقطع؟
والأمر الآخر: تبعاً لأنّ البشر الحديثين الذين انتشروا في وقت لاحق قد حملوا معهم من ضمن ما حملوا هذه السلوكيات الرمزية، فلماذا هناك ندرة في المصنوعات المثقبة وحجر المُغر الأحمر وبقيّة السلوكيات الموجودة في البرّ الرئيس في جنوب شرقي آسيا؟ في الواقع، إن تركنا فنّ الحجارة من سولاويزي في إندونيسيا جانباً، فالأدلّة إمّا نادرة أو معدومة عن السلوك الرمزي في مواقع المنطقة العائدة للعصر الحجريّ القديم المتأخر. لماذا إذاً غيّر البشر الحديثون سلوكياتهم عقب وصولهم إلى جنوب شرقي آسيا على ما يبدو؟
إنّ أحد عناصر ما يسمّى بالجدال حول السلوكيات البشريّة– والذي يفترض بأنّ هذه السلوكيات مقتصرة على البشر الحديثين– الذي لا يزال يحظى بالاهتمام، هو القدرة على بناء مركبات مائيّة قويّة، والإبحار بها والوصول إلى نقطة غير مرئيّة من نقطة الانطلاق. فرغم أنّ التقارير الأوليّة تشير إلى أنّ موقع ماتا مينج في جزيرة فلوريس في إندونيسيا لم يكن مأهولاً بالإنسان المنتصب القادرة على السفر عبر المياه، فقد أثار الباحثون شكوكاً حول صحّة هذا الحجاج. بأيّة حال، لقد تمّ سكن مناطق مثل: أستراليا والأرخبيل الياباني بوضوح من خلال التنقل عبر المياه. وفي حالة اليابان، يعتقد بأنّها كانت مأهولة منذ حوالي 40 ألف عام مضت، ومن المفترض عموماً أنّ من قام بهذه الهجرات هم البشر الحديثون. لطالما ساد الاعتقاد بأنّ البشر الحديثون هم الذين سكنوا أستراليا في البدء، نظراً لضرورة السفر عبر الماء من أجل الوصول إليها. لكن وبفضل المكتشفات الجينيّة الأخيرة عن تتبع آثار الدينيسوفيين لدى سكان شمالي أستراليا وميلانيزيا المعاصرين، فلم يعد بإمكاننا شطب احتمال انتقال الدينيوسوفيين عبر المياه بشكل كلي. لكن يبقى علينا أنْ نحدد أولاً كيف يبدو الدينيسوفيون ومواقعهم الأثريّة أولاً قبل أن نصل لأيّ استنتاج بخصوصهم كرحالّة.
لا يزال هناك قدرٌ هائل من الأبحاث التي يتعين القيام بها في علم الإنسان القديم الآسيوي. يجبر العدد المتزايد من المساهمات القادمة من آسيا، العلماء على إعادة التفكير في كيفيّة رؤيتهم لمختلف نماذج أصل الإنسان الحديث. في الواقع، أشارت دراسة منشورة مؤخراً بأنّ أقدم البشر الحديثين في آسيا قد وجد هناك ما بين 177 ألف و194 ألف عام مضت في كهف مسلية في فلسطين. يبدو الأمر كما لو أننا سنسمع كل بضعة أسابيع عن اكتشاف أحفوريّة إنسانيّة جديدة أو عن تحليل جيني أو عن موقع آثاري أو عن إعادة تأريخ موقع قديم في تلك القارة الآسيوية الهائلة، وهي القارة التي لا تزال تحوي على مساحات شاسعة لم تجرِ فيها استكشافات كثيفة بعد. إن لم يكن هناك شيء آخر، فإنّ الصورة التي لدينا الآن هي أكثر تعقيداً من النماذج القديمة للخروج من إفريقيا: فقد كانت هناك عمليات ارتحال متعددة أكثر قدماً من إفريقيا، والكثير من التزاوج المختلط بين الأنواع، أكثر ممّا اعتقدنا من قبل. لقد اتضح بأنّ صورتنا عن أنفسنا قد أصبحت أكثر ثراءً من أيّ وقت آخر.

معلومات إضافية

العدد رقم:
913