الهروب إلى الفضاء الافتراضي
منذ أن انتشر استخدام الإنترنت، وقد أصبح جزءاً أساسياً من حياتنا إما للتواصل أو لمعرفة ما يحدث في المحيط والعالم، وحتى أنه أصبح جزءاً أساسياً في حياة العديد من قطاعات العمل والدراسة والآلاف من طلاب الدراسات العليا. وعلى هذه الشبكات التقت إنتاجات البشرية من كتب وأفكار وأخبار وما إلى هنالك، والتقت مواقع تواصل الأفراد بين بعضها. وإلى الآن تتراوح الآراء حول أهمية الإنترنت أو سيئاته، حول ما هو الأثر التي تتركه مواقع التواصل الاجتماعي على الأفراد؟ وهل يمكن التعلق بها إلى حد الإدمان؟ فالعديد من الأبحاث النفسية تربط بين الاستخدام القهري للإنترنت، وبين النمو عند الأطفال والمراهقين، أو بين استخدام الإنترنت والوحدة أو الاكتئاب. لا تجزم هذه الأبحاث أن العلاقة مباشرة ولكنها مرتبطة إلى حد ما، ولا تجزم أن جميع من يستخدم الإنترنت بشكل قهري قد يؤثر سلباً على نموه أو قد يكون وحيداً أو مكتئباً، ولكن الاحتمالية هي للعلاقة الموجودة بين هذا وذلك.
متى سيطر الإنترنت على حياتنا؟
مواقع التواصل الاجتماعي، هي إحدى أبرز الأمثلة على مدى قدرة، وسهولة، النظام على خلق مواقع تصب في وعي الأفراد، وفي مصلحة إعادة إنتاجه. وفي مدى سهولة خلق إطار يجمع أغلبية البشرية فيه، وحتى أن يقدم لهم المعلومات نفسها. صحيح أن لمواقع التواصل الاجتماعي استخدامات قد تكون في دائرة المصلحة العامة، إلّا أن الآراء حولها إلى اليوم لا تزال متناقضة، والرأي الشخصي لمستخدميها متناقض أيضاً، فكثيرون قد يعترفون انهم مدمنون على استخدام الإنترنت، والأهم: لماذا هم مدمنون؟ كون الإنترنت لا يحمل فيه أية مادة يمكن لها بيولوجياً أن تحدث الإدمان، كما الكحول أو التدخين، ولكن الإدمان عليه اجتماعي ونفسي محض لا يحمل أي طابع بيولوجي. ولكن سيطرة الإنترنت على حياتنا ليست فقط لما يقدمه الإنترنت من معلومات أو احتياجات عملية أو بحثية مثلاً، ولكن لاحتياج الأفراد في المجتمع الحالي إلى هكذا موقع يؤمن لهم بقعة بعيدة عن الفراغ والاغتراب اليومي، وفي العديد من الأحيان، قد يجد لهم موقعاً يعتبرون فيه ذوي قيمة بين مؤيدي ومعجبي تعليقهم أو صفحاتهم.
صحيح أنّ ارتباط مواقع التواصل الاجتماعي مع الوحدة أو الاكتئاب ليس مطلقاً، ولكن الذي يحمله ارتباط التعلق بمواقع التواصل الاجتماعي والحالة النفسية والاجتماعية هو خطير لدرجة الاكتئاب. فهي إحدى سبل الهرب من الواقع والاختباء بموقع وهمي لا يمكن أن يطالنا بشيء مباشرة، بل إنه يخفي عن العالم الحالة النفسية والاجتماعية التي نعيش، يخفي خوفنا وقلقنا من وضعنا ومن مستقبلنا، ويمكن لنا أن نكون أي شيء نريده لطالما أنه لن يغير في شيء منْ حياتنا، ولن يؤثر سلباً عليها، ولن يزيدها سوءاً حسب ما يمارس المشتركون على هذه المواقع. وقد يتفق علم النفس السائد والعلمي: أن وراء التعلق بمواقع التواصل الاجتماعي الحاجة إلى التعبير والحاجة إلى الوجود، الحاجة إلى أن نكون ضمن مجموعة، وأن نُعّرف عن أنفسنا من خلال موقع أو قضية أو هوية ما. والحاجة أن نظهر من خلاله ونطلب الإعجاب والتقدير من الأفراد، حتى لو كان هذا الإعجاب من باب المجاملة ومن باب الوجود الرمزي للشخص الآخر أيضاً. والحاجة في القول: إننا بخير، وإن حياتنا جميلة، ويمكن لنا أن نعيش كما هو «مفروض» للعيش أن يكون في هذا المجتمع وعلى هذه المواقع التي تعكس الواقع وتعكس حاجة البشر إلى هكذا إطار.
في مقال نشر على موقع science alert تحت عنوان «سبعة أسباب تجعل من الصعب إلغاء حساب فيسبوك»، يربط أصحاب المقال صعوبة التخلي عن «فيسبوك» بخسارة الحاضنة والدائرة الاجتماعية، والموقع الاجتماعي الذي نصنعه لأنفسنا على فيسبوك، وخسارة القدرة على التعبير، والموافقة على الآراء التي نعبر عنها على فيسبوك. مع أن المقال لا يربط هذه الضرورة وهذه المميزات فيسبوك مع عدم وجودها خارج الفضاء الافتراضي، أي: عدم وجودها في الحياة الواقعية المباشرة للبشر، الذين بسبب انعدام هذا الإطار الحقيقي يلجؤون إلى طلبها من هذا الموقع «الافتراضي».
من السهل الاحتماء بأي فضاء افتراضي، لا يمكن له التأثير علينا، ولن يزيد قلقنا وخوفنا في نتائجه المباشرة. ولكنه ليس سهلاً أن نعترف أنّ هذا لن يحل شيئاً من مشاكلنا ومن ارتفاع اغترابنا. وليس سهلاً أن نقول: إن لهذا سبباً واقعياً هو التشوه في العلاقات الاجتماعية، وقيمة الأفراد في المجتمع، التي أدّت بهم جماعات وجماعات إلى اللجوء إلى الافتراضي لحماية أنفسهم الحقيقية. ولكون الإنترنت أصبح في الحقيقة حاجة يومية لجميع مرافق الحياة، يجب أن ننقله من عنصر سلبي إلى عنصر إيجابي. ولنقله يجب أن نرفع من قيمة ووجود الأفراد في المجتمع، الذي سيصبح ممكناً في مجتمع بديل يحمل للأفراد القدرة على الوجود والتعبير، ولا يدفعهم إلى الافتراض.