الأبطال الخارقون وتعميم العجز
انطلقت بعض نظريات علم الاجتماع من العلاقة بين الهرمية الاجتماعية والأدوات الاجتماعية التي تبنيها هذه الهرمية وتعيد إنتاجها. وركزت هذه النظريات على أنّ الهرمية الاجتماعية للنظام الرأسمالي تثبت أدواتها الاجتماعية لكي تكون المتحدث غير العلني باسمها.فتبني ببطء وعياً في عقول الأجيال القادمة مرتكزة على إعادة إنتاج الهرمية الاجتماعية نفسها، مرتكزة على هرمية الأعلى والأدنى نفسها، ومن يمتلك القوى الاجتماعية والسياسية في المجتمع لكي يقرر، ومن يمكنه الوصول إلى فرصٍ أكثر وأوسع، ومن لا يمكنه. في هذه العملية لا يحدث بناء الوعي بطريقة مباشرة، أي: أن من يُقام بناء وعيه يتشرب هذا الوعي بطريقة غير مباشرة مثلاً عبر التعليم، لكي يصبح الفرد نفسه من ضمن هذه الهرمية متمركزاً في موقعه الاجتماعي ويصبح هو أيضاً جزءاً من هذا البناء عبر الدور الاجتماعي الذي يحصل عليه.
من الأدوات الاجتماعية: المؤسسات الحكومية التي تمثل الهرمية الاجتماعية بطريقة مباشرة أكثر من الأدوات الأخرى مثل: التعليم، الإعلام، الفن، والتي تعكس مثلاً الصعوبات وعدم القدرة إلى الوصول المتساوي بحسب القدرات في تلك الأدوات، وغير ذلك من طرق غير مباشرة.
تلعب الأفلام دوراً مهماً في هذه العملية، فهي إحدى طرق بناء وعي الأفراد. خاصة في أنها تمثل حياة خارجة عنا، تعكس لنا ما نريد أن نعيشه ونؤمن به. فهي بعيدة عن الأفراد ولا تتعلق بحياتهم بشكل مباشر، ولا تتعلق بمصاعبهم اليومية، تسمح لهم بالتماثل الوهمي في تفاصيلها ومع شخصياتها. ولقد كانت الولايات المتحدة مدركة إلى هذا التفصيل فوظفت تمويلاً هائلاً في إنتاج الأفلام، التي كانت تعكس في كل لحظة تاريخية موقفاً أمريكياً من العالم. وحتى الإنتاج البسيط، في أغلب الأفلام أو الدراما اللبنانية، عكست وعياً في أذهان من يتابعها، على أنّ المشاكل الاجتماعية اللبنانية هي عبارة عن أخذ بالثّأر، حيث جميع اللبنانيين يعيشون كما تعيش شخصيات الأفلام أو الدراما، جميعنا نمتلك بيوتاً فخمة، وسيارات حديثة، ونتحدث بطريقة غريبة، أغرب من تلك التي نتحدث بها حقاً بخلط اللغات العربية والفرنسية والإنكليزية. أمّا الإنتاج الأرقى نسبة إلى قدرته على عكس الواقع، يصطدم بعرض الواقع كما هو (مثل بعض الأفلام المصرية أو الدراما السورية) من دون القدرة على إيجاد الحل، لكونه يضع نفسه بعيداً عنه، في الشاشة التي يعرض من خلالها وليس عبر تفاعل هذه الشاشة مع حياة الأفراد.
الأبطال الخارقون وثنائية الخير والشر
توفي الأسبوع الفائت ستان لي، صاحب شخصيات الأبطال الخارقة (الرجل العنكبوت، الهالك، وغيرهم) التي لعبت دوراً في بنية وعي الخير والشر عند ملايين الأفراد. يمتلك ستان لي العديد من الشخصيات التي تتمحور حول القوى الخارقة، انتقل بين الأرض والفضاء والتجارب الأمريكية في الحرب العالمية الأولى والسعي إلى عالم يسوده الخير. ما تعرضه هذه الأفلام بالإضافة إلى ثنائية الخير والشر، جشع الأفراد وجنوحهم نحو الشر، أو نحو الخير، أي المطلق في الأمور والمطلق في الحياة، والقدرة الذاتية في التعامل أو حل مشاكل الحياة. وما تعرضه أيضاً عدم القدرة على التعبير عن الوضع القائم إلّا من خلال الخرافات، أو المبالغة في طرح الأمور التي تُطرَح على أنها خارجة عن إرادة الشخصيات وتسمح بالتعاطف معهم. مثلما تنعكس في ذهن الأفراد أن حياتهم خارجةً عن إرادتهم، وقوتّهم إما موجودة أو لا، فلن تأتي هذه القوى من داخلهم بل من مصدر خارجي. فتطرح هنا فرضية، «شو بيطلع بالإيد؟!»، التي تحمل جوابها بلا شيء، لأن الأمور لا تتحرك من ضمننا وبنا بل تتحرك خارجنا، مِن قبل مَن يتربع على عرش الهرمية الاجتماعية.
وهذا التعاطف أو التماثل الوهمي مع هذه الشخصيات، يؤدي إلى اقتناع بما يقومون به، فالدمار والموت والكوارث التي تقوم بها شخصيات الأبطال الخارقة خارجة عن إرادتهم، وهي لمصلحة الخير، والخسائر البشرية لا تأخذ مساحة بسيطة في تكوين الوعي، لكون الطاغي هو الخير والشر وما يحصل أثناء ذلك لا يبرز بطريقة مؤثرة.
الحرب على الإرهاب
بعيداً عن الأفلام في الحياة اليومية، تلعب ثنائية الخير والشر نفس أسلوب أفلام الأبطال الخارقين في «الحرب على الارهاب»، أو «النضال نحو ديمقراطية الشعوب». فـ «التعاطف» الذي حصلت عليه الولايات المتحدة الأمريكية في «حربها على الإرهاب» نفى الجانب الآخر في تدمير عدة دول في العالم، وانطلق من ثنائية الخير والشر والحق المطلق لأي منهما. حصلت الولايات المتحدة على هذا الحق المطلق، ومارسته كما يمارسه الأبطال الخارقون، بتدمير نصف الكوكب لكي ينقذوا أنفسهم من الموت. وزرعت وعياً في عقول الشعوب على أن ما تقوم به هو لمصلحتهم، وجعلتهم يُسقطون الشرّ على شريحة واسعة من شعوب العالم. فالتعاطف مع شعوب الدول التي «تصدّر الإرهاب»، أو بالإجمال مع شعوب منطقتنا لم يبنَ، بل قابله إسقاطٌ على أنّ هذه الشعوب تمثل الشر الذي يجب أن نحاربه، فأصبحنا «خسائر جانبية» على طريق «الخير» الأمريكي.