الاستلاب والمرأة والعقل المُسيطر
«التخلف» الذي تعيشه موضوعياً وذاتياً بلدان العالم الثالث يعكس بنية اجتماعية ونفسية تكون الحاضر الأساس في الفعل اليومي لاثبات قيمة الذات ومعنى الحياة. ولكن مع عدم القدرة على إثبات هذه القيمة، ومع التشوهات النفسية والاجتماعية التي ترافق هذه المحاولات يتحول اليومي إلى استلابٍ (اقتصادي اجتماعي، ونفسي). ويختلف اليومي في انعكاسه وفي درجة استلابه بحسب موقع الفرد الاقتصادي والاجتماعي– بين من يملك السلطة الأعلى ومن يملك السلطة الأدنى وبين من لا يمكلها إطلاقاً.
تلك هي نمطية الإنسان المقهور، كما يسميها مصطفى حجازي (أستاذ علم اجتماع لبناني)، في تخفيف القهر والاستلاب الذي يعيشه يومياً، بالتماهي مع المسيطر وممارسة نفس الأفعال التبخيسية التي يمارسها المُسيطر عليه، وبنفس الترتيب الهرمي السلطوي من أعلى إلى أدنى، من الموقع الأعلى اقتصادياً واجتماعياً على الموقع الأدنى. من الأب على الأم والأولاد، من الرجل على المرأة، من الأستاذ على تلاميذه، من رجل الشرطة على الشعب، إلخ إلخ... تضع هذه الهرمية السلطوية الإنسان المقهور في موقع المسيطر على من يعتبرهم (ربما وهماً) في مستوى اقتصادي واجتماعي أدنى منه، وتكون للمرأة النسبة الأكبر من الاستلاب والقهر بحكم موقعها المتدني في هذه الهرمية.
استلاب متفاوت
لكن هذا الاستلاب متفاوت، بحسب الموقع الاقتصادي/الاجتماعي وبحسب نسبة الوعي الموجودة في أي مجتمع بعامة أو فردياً بنسب مختلفة بين فرد وآخر. وهذا التفاوت في الاستلاب يجد مخرجه في كيفية التعامل مع الحياة اليومية، وكيفية التطرق إلى المسائل وحلها. يأتي هذا الحل من خلال العمليات الذهنية وردات الفعل الواعية وغير الواعية، التي ترتبط بالفعل اليومي تجاه أية مسألة. مثلاً: يعرّف حجازي أربع اليات دفاعية يقوم بها الإنسان المقهور كردة فعل على قهره، وعدم قدرته على السيطرة على مصيره، ولتخفيف نسبة القهر والخوف، التي هي الانطواء على الذات، التماثل مع المُسيطِر، السيطرة الخرافية على المستقبل، والعنف، والمتمثلة في العديد من الأمثلة اليومية مثل: الإيمان بالشعوذة والسحر، أو تبرير الأزمات من خلال اللجوء إلى سلطة دينية أو روحية أعلى، والتقييد بالأعراف والتقاليد، والجهوزية إلى استعمال العنف في أبسط الأمور. كما أن هذا التفاوت ينعكس تفاوتاً في نسبة القهر أيضاً عند الفئة الأضعف في المجتمع وهي المرأة.
قهر التخلف أم قهر الرجل؟
المشكلة التي نواجهها حالياً مع النسوية الجديدة التي تعتبر أن الرجل هو أساس قهر واستلاب المرأة هي المشكلة نفسها التي نحاول طرحها من خلال تعريف التخلف والقهر. لأن الانطلاقة مختلفة، الانطلاقة هنا هي من أصل التخلف وأسبابه، ومما كرسه في النمط الاجتماعي اليومي هذا التخلف، اما الانطلاقة هناك (في النسوية) من الواقع المكرَّس لنمط الحياة ومن الظاهر منه فقط. فيعتبر حجازي أنه حتى لو أن للمرأة النسبة الأكبر من الاستلاب والقهر، هذا لا يفصل الرجل عن هذا الاستلاب، بل كلما ارتفع الغبن الاجتماعي على الرجل كلما ارتفعت نسبة القهر عند المرأة، لأن الرجل الأكثر قهراً وغبناً هو الأدنى في العلاقة الهرمية السلطوية، لذا فهو غير واعٍ على كمية هذا الغبن والقهر والاستلاب، وهو مقاوم أكبر لعملية التغيير من غيره. فيقوم بعكس هذا القهر على من هم أدنى منه سلطوياً أي: على المرأة والأولاد. لذا لا يمكننا رؤية علاقة المرأة والتخلف من باب واحد فقط، على أن كل النساء متساويات في نسبة هذا التخلف والقهر المفروض عليهن، ليس لأن الموقع الاقتصادي يلعب دوراً بارزاً في هذا بل أيضاً لأن نسبة الوعي والإدراك (التي جزء منها يأتي من خلال هذا الموقع) مختلفة عند النساء كما عند البشر كلهم.
يقول ماركس وإنجلز في العائلة المقدسة: «إن التغيير في مرحلة من مراحل التاريخ يمكن أن يحدده تقدم المرأة نحو الحرية، لأن في علاقة المرأة بالرجل، علاقة الضعيف بالقوي نجد أن انتصار الطبيعة الإنسانية على الظلم أكثر وضوحاً. إن درجة تحرر المرأة هي المقياس الطبيعي للتحرر العام». لذا فالمشكلة هي في الهرمية الاجتماعية التي جعلت من العلاقات الإنسانية عبارة عن علاقة الضعيف بالقوي، وليس علاقة تبادل بين مكونات المجتمع بمعزل عن الهرمية تلك. هذه العلاقة التي كرسها منطق المسيطر من استعمار واحتلال عبر سنين طوال، أدت إلى اقتناع الإنسان المقهور بعضوية وطبيعة تخلفه، وأدت إلى قبول الفئات الأضعف في المجتمع (من المرأة والأفراد الذين ينتمون إلى الموقع الأدنى اجتماعياً) بهذا القهر وهذه الهرمية.
ارتفاع أعداد السرطان والعقل المسيطر
مثالٌ آخر على ما نقول، عزت الوكالة الدولية لأبحاث السرطان (التابعة لمنظمة الصحة العالمية) سبب الارتفاع في معدل السرطان في العالم إلى النمو السكاني، ارتفاع معدل العمر، والتغير في أسباب السرطان المرتبطة بالتنمية الاجتماعية والاقتصادية. معللة هذا بالتحول في حالات السرطان من السرطانات المرتبطة بالفقر والالتهابات إلى السرطان المرتبط بنمط الحياة في البلدان الصناعية. هنا يحاول العقل المسيطر تكريس قهره لمن يعتبرهم أدنى منه في الهرمية الاجتماعية السلطوية، من خلال إقناعهم أن تخلفهم الذي يؤدي إلى الارتفاع في أعداد السكان هو جزء من مشكلة السرطان. وهنا يؤكد لنا أيضاً: العقل المسيطر أنه غير قادر على الخروج من ثنائية قوي- ضعيف التي تبرر سيطرته وتعطيها شرعية اجتماعية ونفسية. لذا فالخروج من التخلف هو بكسر علاقة القوي بالضعيف إلى علاقة تبادل في المجتمع من خلال إفساح المجال أمام هذه الشعوب بالتقدم بعلاقات تريحهم من السيطرة والقهر والعنف اليومي عليهم.