«علوم» وجار «بن غوريون» والبحث في السلوك الإجرامي للإنسان ثنائية البيئة-الفطرة مرة جديدة!
دراسة مذهلة «جديدة» أكثر شمولاً وتعمقاً»، بنتائج «قيمة» أيضا مرة جديدة، والمسألة نفسها.
البحث في أصول السلوك «المنحرف» والـ «لا إجتماعي» والاضطرابات العقلية والجسدية والنفسية، والمنطق الموجه للمنهج والفكر والنتائج والنقاش، هو أيضاً ذاته في العلم الاجتماعي السائد، البحث في بداهة تأثير الطفولة على الحياة لاحقاً من جهة، ومن جهة أخرى التشويش والتعمية على الأصل الاجتماعي لهذه الطفولة (والمراهقة والرشد) التي يتحدثون عنها. حيث يتم تضخيم الفكرة إلى حد أنها تصير الفكرة الحاكمة للميدان البحثي ككل، يصير البحث في المجتمع هو لخدمة هذه الفكرة بذاتها، أي: أن دور الطفولة في النمو اللاحق يعني: أن الحل السحري يكمن حسبهم هو «سياسة التدخل الاجتماعي» لمنع تأثير هكذا ظروف على الطفولة، دون البحث في الظروف نفسها.
البيئة_ الفطرة
الجانب السياسي الآخر لهذا الخط اللاعلمي، هو: التأكيد على دور الجانب الجيني في تقرير مسار ومصير نمو الإنسان وسلوكه وحالته العقلية وقدراته على مقاومة الظروف «السيئة». أي: بإعادةٍ للنقاش العلمي الفلسفي حول ثنائية «البيئة_ الفطرة» ودور كل منهما في تقرير الحالة الإنسانية العقلية والنفسية، والجسدية، ولكن بإعلان صريح هذه المرة، إلى منطق «الطبيعة الإنسانية المطلقة» في إعلان أحد أعضاء الدراسة حول «الجانب المظلم من الطبيعة البشرية» كتعبيرٍ وقحٍ عن الفكر الفاشي: «كل البشر لم يخلقوا متساوين. بعضهم موهوب ويحمل إمكانات، والبعض الآخر لديه مشاكل حقيقية منذ حجارة تشكلّهم الأولى. متى قبلنا بذلك، لا يمكننا تجاهل المسؤولية للتدخل والفعل الاجتماعي».
الكلام أعلاه، عن مقال منشور أول الشهر الحالي حول دراسة طولية على موقع مجلة «علوم» العالمية الإلكترونية، والتي تتبع فيها فريق الدراسة (أساتذة في جامعة ديوك في الولايات المتحدة حالياً) لأكثر من 1000 نيوزيلندي، لأكثر من أربعين عاماً. الدراسة شملت السجلات الطبية والمقاييس النفسية والعقلية، والدراسة الجينية، والوضع العائلي والاجتماعي، إضافة إلى السجل القانوني «الإجرامي والجانح» للمبحوثين المولودين في مستشفى ديون في نيوزيلندا.
متذبذب ومكتئب!
ما خرجت به النتائج، التي نال عليها أعضاء الفريق البحثي «تيري مافيت» و»أفشالوم كاسبيت» جائزة من الجمعية الأمريكية لعلم النفس في 2016، أن الأطفال الذين عانوا من أحداث مؤلمة في مرحلة الطفولة، شهدوا سلوكيات جانحة في مراحل حياتهم اللاحقة، ووجدت أن الأطفال الذين تمتعوا بمحيط غير ضابط في عمر الثلاث سنوات، بينوا عن سلوك متهور وغير اجتماعي لاحقاً، بينما الأطفال المكبوحين أصبحوا ذوي سلوك غير ثابت ومتذبذب ومكتئب لاحقاً. إلى جانب أن من شهد سلوكاً مضطرباً واجه بشكل غير متأقلمٍ مرحلة النضج، وأن من أبرز الهلوسات في الطفولة حمّلوا احتمالية خطر حالات فصامية في الرشد. بينما من أبرز سلوك الضبط الذاتي في الطفولة، قد تنبئ بصحة جسدية ونجاح مادي! وانخفاض في السلوك الإجرامي في الرشد. أما في الجانب البيولوجي الجيني، من أفرز أنزيم «مونو آمين اوكسيدايد ألف» وشهد معاملة سيئة في الطفولة، هو أميَل لكي يصير عدوانياً في مرحلة الرشد؛ من بين استنتاجات أخرى.
كما دائماً، أين الجديد؟
المئات من الدراسات الدولية، وغير الطولية، بحثت في القضية المبحوثة في الدراسة المذكورة، وبذات المنطلقات المنهجية النظرية، وجميعها تنضوي في سياق الخلاف النظري التاريخي العلمي الفلسفي السياسي، حول دور أي من العوامل في تحديد وعي وشخصية الإنسان ونمط ممارسته بشكل عام، وببساطة يمكن القول: إن الدراسة المذكورة إلى جانب مثيلاتها تصب في الخط المثالي التجريبي نفسه، الذي لا يزال يرى النمو الفردي معزولاً عن البنية الاجتماعية الكلية، ونمط علاقاتها الحاكم، وثقافتها السائدة، والقوى المحركة والقوانين التي تفرض الظروف الاجتماعية الكلية، وانعكاسها في تجارب الأفراد الفردية، والمباشرة، كالعائلة والتجارب الشخصية واتجاهاتهم الحياتية “الجانحة” والسلمية”، وفي قدراتهم العقلية وتعليمهم وتربيتهم. بينما الخط المادي التاريخي النقيض، يؤكد على أن الفرد في كليته لا ينفصل عن البنية الاجتماعية والنظام الاقتصادي القائم.
تشويه الصراع الاجتماعي السياسي
هكذا، وببساطة يكمن دور هذا الخط المثالي الرجعي في العلوم في تشويه الصراع الاجتماعي السياسي، في حرف الصورة ونقطة الانطلاق للبحث في حياة الأفراد، وخصوصاً في إضفاء طابع العلمية الزائف على دراساتهم، وتجميل توظيفها في «الحد من السلوك الإجرامي في المجتمع»، وكأن ما يبحثونه لا زال بحاجة إلى بحث، بعد قرون من تطور البشرية واتضاح الخط الحاكم للتشوه الاجتماعي، في حياة البشرية الناتج عن الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج بشكل أساس، وبشكلها الرأسمالي حالياً، وبالتالي تصب في صالح تأبيد الرأسمالية وبوقاحة تلغي التراكم العلمي الحاصل، والذي يشير إلى أصل السلوك غير الإنساني القائم على واقع غير إنساني، أنتجه التوزيع غير العادل للثروة، والظروف غير الإنسانية لمعيشة الملايين.
الجانب السياسي الوقح المباشر للدراسة!
أحد أعضاء فريق الدراسة «أفشالوم كاسبي» هو «إسرائيلي» وبحسب المقالة ولد في «كيبوتز» (مزرعة يهودية) في “صحراء النقب «الإسرائلية» من أب يمني وأم ليتوانية، وكان جارا لـ «بن غوريون» بعد تقاعد الأخير، الذي كان يلقي “الشالوم” على الباحث كل صباح.
هكذا، المنتمي إلى الكيان الإجرامي الصهيوني يبحث في أصول السلوك الإجرامي للإنسان، ولكن في نيوزيلندا، الذي ينفي هو وصحبه العلماء والناشرين والداعمين وغيرهم، اغتصاب وتشريد شعب فلسطين وملايين الشهداء والجرحى من بشر الدول الأخرى. هذا الكيان دليلٌ على أن الإجرام أصله رأس المال العالمي، والقوى الفاشية نفسها، لا غيرها. إلا إذا اعتبرنا أن أصحاب الدراسة أرادوا اعتبار أن «الهولوكوست»، حسب منطق الدراسة، هي مبرر لممارسة الصهاينة الإجرامية التاريخية، لأنهم لقوا “معاملة سيئة” عندما كانوا أطفالاً؟! كذا! ولكن مظفر النواب يرد هنا عن دماء شعبنا: “هذا دم أم ليس دم؟!” لتبحثوا فيه.