«الإندبندنت» والأصولية وكتاب الوجوه الحزينة
نشر موقع جريدة «الإندبندنت» البريطانية الإلكتروني، في العام الماضي، مقالاً، أعيد مشاركته حديثاً على حساب الجريدة على فيسبوك، حمل عنوان:
«وسائل التواصل الاجتماعي، مليئة بالحزينين والوحيدين، يدّعون أنهم بخير، وأناس بحالة جيدة، يسعون للاهتمام ويدعون أنهم حزينون»، ويعرض لدراسة أجرتها جامعة بيتسبرغ (بنسلفانيا_ الولايات المتحدة الأمريكية) والتي حذرت، أن وسائل التواصل الاجتماعي، تجعلنا نحس بالوحدة. وبلغة المتهكم على الدراسة، يعلق كاتب المقال: بأن القضية بديهية، ولا تحتاج إلى دراسة بموافقة مع مضمون نتائج الدراسة.
شملت الدراسة 1787 راشداً ما بين 19 و32 من العمر، حول استخدام 11 موقعاً للتواصل الاجتماعي، منها: تويتر، فيسبوك، انستاغرام، سنابشات وغيرها. وأظهرت الدراسة، أن الأشخاص الذين زاروا المواقع الـ11 كلها أكثر من 58 مرة في الأسبوع، كانوا خبروا الوحدة أكثر بـثلاث مرات من الأشخاص، الذين زاروها أقل من 9 مرات في الأسبوع.
يقول البروفيسور في كلية الطب في الجامعة نفسها «براين بريماك» معلقاً: «نحن بطبيعتنا كائنات اجتماعية، ولكن الحياة العصرية تفككنا عن بعضنا» ويكمل «بينما أن وسائل التواصل الحديثة تبدو أنها تظهر فرصة لسد الفراغ الاجتماعي، أعتقد أن هذه الدراسة تقترح أنها (وسائل التواصل) ربما لا تشكل الحل الذي يأمله الناس».
يكمل المقال، ليعتبر أن وسائل التواصل تبقي البشر «مشغولين دماغياً»، وتساعدهم على بناء العلامة التجارية الخاصة بكل شخص، وتبقيهم في مركز دراما العلاقات، ولا تسمح نهائياً لكي يكون البشر لوحدهم. وهي أيضاً ضخمت من الخوف بالبقاء في وحدة، حيث أن الصور ومقاطع الفيديو كلها التي يبثها الناس لتحركاتهم الترفيهية، غالباً تجعل من هو خارج الحلقة أكثر عرضة لهذا القلق من تفويت النشاط. بينما سابقاً على وسائل التواصل كان الفرد لا يستطيع أن يرى هذه المغريات كلها، ومجال تأثره محدود في محيطه الضيق، حيث أن أي سعي للإحساس بالحضور الاجتماعي، كان يتم عبر «استقلال الباص للذهاب إلى حانة، أو قاعة كنيسة»، أما الآن فالفرد مدفوع بقلق «لفت الانتباه الاجتماعي» إلى حد الكآبة. فوسائل التواصل مليئة اليوم_ حسب المقال، بأناس وحيدين يسعون لجذب الانتباه عبر التظاهر بسعادة مصطنعة، أو بإظهار التعاسة والضعف لجذب الانتباه كذلك.
كردة فعل على التعاسة والتزييف، الذي تفرضه وسائل التواصل، نشأت_ ما سماه المقال_ ظاهرة «التخلص من السموم الرقمية» (Digital detoxes) لدى العديدين الذين يأخذون فترة راحة من وسائل التواصل، واختبار التواصل المباشر أكثر، بسبب هذا الهجوم الدرامي على المتابع. ما يحدث حول الطفولة، إلى ظاهرة من جلب المتابعين على صور أو مقاطع فيديو واستعراضات وشهرة الكترونية، ويتحسر الكاتب في النهاية، على زمن اللعب في الحقول والمراعي!
منطق المقال وتغييب الأزمة الفعلية
يحمل المقال المنطق الأصولي نفسه، الذي يرد على أزمة «الحياة العصرية» التي هي حياة المجتمع الرأسمالي نفسها، بطرح العودة إلى ما قبل الظرف الراهن، مئة، مئتان، ثلاثمة عام، وربما أكثر، إلى «زمن البساطة وغياب التعقيد والحياة الطبيعية». السردية نفسها التي نسمعها في الإعلام، والمقال اليومي، وهي منطق الردة الأصولية نفسها، والشكل الأقل تطرفاً منها وتجميلا لها، هي الرومنسية العاجزة أمام حقارة النظام الرأسمالي.
الحيلة ضمن هذا المنطق، هي: تغييب الأزمة الفعلية، فالتكنولوجيا هنا تكون سبب هذا التفكك الاجتماعي، يقولون، كما أن الذكاء الاصطناعي حسب الزعم نفسه هو مصدر خراب وظائف الملايين حول العالم، أو دمار البشرية ككل!
معادلة الحزن والوحدة لا تتضمن الرأسمالية!
قيل في وسائل التواصل الكثير، وملايين الأوراق البحثية والمقالات...ولكن لا زالت الفكرة تدور في الفكر والإعلام الرسمي حول نفسها، لكي تؤكد أن الأزمة تكمن في التكنولوجيا، فلولاها لما كان البشر يشعرون بالوحدة والعزلة، وكانوا أكثر تواصلاً فيما بينهم، ولما لجؤوا إلى لفت النظر، أما من خلال إظهار سعادة مفرطة، أو حزن مفرط.
الخلاصة، إذاً هي: أن البشر كانوا قبل وسائل التواصل أكثر إحساسا بقيمتهم ووجودهم الاجتماعي نسبة للآن، حيث هم أقل شعوراً بحضورهم الاجتماعي وقيمهم الإنسانية، ولهذا فهم يصنعون هذه القيمة من خلال التضخيم الذاتي على وسائل التواصل. إذاً، قبل فيسبوك، كانت الحياة ضمن الرأسمالية أكثر كرامة وقيمة وحضوراً اجتماعياً، فجاء الفيسبوك وبقية المواقع الإلكترونية، وسلب من الحياة ذلك كله. الثابت الوحيد الذي لا يدخل ضمن معادلة الحزن والتفكك الاجتماعي والوحدة الفردية، هي: الرأسمالية، فهي كانت قبلاً على هذه «الدراما والألم الإلكتروني»، إذاً، الفعل ليس منها. هكذا يتم شيطنة كل شيء، على أن تبقى الرأسمالية بريئة ونقية.
وسائل التواصل مرآة التغريب الرأسمالي السابق لـ»زوكربغ»
التهميش وضرب العلاقات الاجتماعية، في رهنها إلى منطق المصلحة النفعية السطحية أولاً، وتفكيك الثقافة الجماعية وتعزيز الفردانية ثانياً، والإفقار المسبب للحد من هامش الحركة الاجتماعي، والقدرة على الإنتاج ضمن المجموعة ثالثاً، وإغلاق منافذ الحياة إلّا ضمن دائرة لقمة العيش لدى الغالبية، أو نفي أي دور اجتماعي منتج مبدع للبقية الباقية من البشر، كلها تشكل حالة الحزن والقلق والوحدة على الذات، التي حرمت من أي سبب للحياة الإنسانية، في وهم السعادة الرأسمالية، وتم تهميشها وإشعارها بلا قيمتها، فكانت وسائل التواصل مرآة هذا الحزن والوحدة، لا سبب واصلاً له.
عادة، ما يشار إلى أرباح مواقع التواصل الاجتماعي الطائلة، وخصوصاً فيسبوك، وبأن الموقع يتربح من تواصل الناس ومشاركتهم صورهم، أو أفكارهم أو يومياتهم، ولكن الأصح، أن الأرباح ينتجها هذا الحزن والقلق الوجودي والألم الذاتي، فالرأسمالية قادرة على أن تحول الحزن إلى تجارة مربحة، كما موقع «كتاب الوجوه الحزينة» أو»Sadfacebook».