كيف تصنع الذاكرة؟
تبدو من أصعب المهمات التي نقوم بها بشكل يومي ودوري هي: استيعاب الكمية الهائلة من المعلومات التي نحتاجها في حياتنا. هذه الحالة من حفظ المعلومات وتلقين الذاكرة المستمر تشكل جزءاً من مدى ديناميكية عقلنا على خلق المساحة الدائمة لمعلومات جديدة تطرأ علينا يومياً.
يتفق أغلب العلماء على مراحل حفظ الذاكرة في عقلنا، وفي أي جزء من هذه المراحل نضع كل خانة من الذكريات والمعلومات التي نريد. المراحل التي تنتقل من الذاكرة القصيرة الى الذاكرة على المدى الطويل، تنقسم الأخيرة إلى أي نوع من المعلومات تحفظ على المدى الطويل. ويتففق العلماء أيضاً على العلاقة بين تنشيط الذاكرة منذ عمر صغير وكمية ودينامية الذاكرة عند الأفراد. بالإضافة إلى ضرورة تلقين أنفسنا وغيرنا– في المدارس– بطرق حفظ متعددة، لكي تساعد الدماغ على التطور والدينامية.
الذاكرة وصحة الدماغ!
تأتي علاقة تنشيط الذاكرة، والمحافظة على صحة الدماغ، من خلال ما تقدمه الذاكرة والذكريات لحركة الدماغ والأعصاب، وكنتيجة لإدراكنا وتفاعلنا مع محيطنا. فلتنشيط أو تثبيط الذاكرة تأثير على الذاكرة المحفوظة عند الأفراد، والتي تمتد من الأفعال التي لا تحتاج لجهد كبير، مثل: التحدث والكتابة وتذكر أشياء بسيطة يومية وروتنية في حياتنا والقيام بأعمال ميكانيكية (مثل: المهارة أو التقنية في عمل يدوي ما) إلى الأفعال التي تحتاج إلى تركيز والتي تشمل أيضاً: أشياء روتينية يومية، وأشياء معقدة. وعملية التنشيط والتثبيط للذاكرة مرتبطة ببروز بعض الأمراض العقلية والعصبية، مثل: الزهايمر. كما هي مرتبطة بتطور الإدراك الذي يتتطور أيضاً من خلال كمية المعلومات التي تحفظ في الذاكرة المحفوظة والتي تدخل يومياً إلى دماغنا.
البقاء على قيد الحياة
يربط العديد من العلماء الذاكرة المحفوظة عبر الأجيال المتعاقبة، والقدرة على البقاء على قيد الحياة. فيعتبرون أن الإنسان قد تعلم الخوف من الحيوانات المفترسة والنار، وقد نقل هذه الذاكرة المحفوظة إلى الأجيال القادمة عبر نقل نمط شخصية معين تخاف من الحيوانات المفترسة، ما ساعد الإنسان على البقاء على قيد الحياة والتأقلم مع محيطه. كما أن تجاربنا اليومية، تدلنا على كيفية مساعدة الذاكرة المحفوظة لنا، فالذاكرة التي تحفظ تنبه الفرد من العمل نفسه أو أعمال مشابهة له في المستقبل. وقد تكون هذه الذكريات من خلال محطات أو حوادث بسيطة، مثلاً: تنبيه الأولاد الى عدم فعل شيء سيجعلهم يتذكرون لاحقاً في المستقبل لوجوب عدم فعله، أي: الربط بين ما حدث وهو موجود في الذاكرة المحفوظة وما يحدث الآن.
الذاكرة والتاريخ!
للنسيان أيضاً جزء من عملية حفظ المعلومات. فما ننساه بشكل متعمد ذاتي أو موضوعي يؤثر على الذاكرة المحفوظة للأفراد. هنا تختلف الأبحاث والتقارير في مدى تأثير النسيان وما يسمى أيضاً بالذاكرة الخاطئة– أي حفظ معلومات خاطئة في الذاكرة المحفوظة. فالبعض يعتقد: أن التاريخ محفوظ في ذهن الأفراد على شكل محطات إيجابية، والذاكرة الجماعية للأفراد حول التاريخ هي ذاكرة المحطات الإيجابية في التاريخ، حيث يستذكر الأفراد جماعياً المحطات الإيجابية في التاريخ، ويعمدون إلى تناسي المحطات السلبية فيه. ولهذا التبرير شقان، الأول: في كوننا لا يمكننا استيعاب المعلومات التي تدخل إدراكنا جميعاً، فجزء كبير من هذه المعلومات قد ينتقل إلى النسيان، بينما جزء بسيط منه قد يبقى في الذاكرة على المدى الطويل. أما الشق الثاني: في كوننا نستذكر المحطات الإيجابية في التاريخ، لكي تساعدنا على البقاء على قيد الحياة أي: العيش في راحة ضمير جماعية. أما البعض الآخر فيربط بنية الإدراك والوعي بالنظام السياسي القائم في المرحلة التاريخية المعينة. حيث إن بعض محطات التاريخ، الإيجابية أم السلبية، يتم إبرازها أكثر من غيرها من قبل النظام السياسي من خلال السياسة التعليمية، الإعلام، والوسائل المتاحة كافة لكي يتم تركيزها في ذاكرة الأفراد الجماعية. أي: أن ما يراد أن له أن يظل موجوداً في الذاكرة هو رهن بالوضع السياسي. مثلاً: ما يتم التركيز عليه في الحرب الأمريكية على فيتنام هو: العامل »الإيجابي» بالنسبة للذاكرة الجماعية لشعب الولايات المتحدة، إن الولايات المتحدة الأمريكية قدمت العديد من التضحيات نصرة لحرية فيتنام، بينما ما يتم التركيز على نسيانه أنها كانت سبب أو جزء في أكثر من حرب في شرق آسيا. أما ما يُراد التركيز عليه في تاريخ كامبوديا مثلاً هو: العامل »السلبي» وهو ما »قام به» الخمير الحمر عند استلامهم السلطة في كامبوديا، هذه الذاكرة الجماعية السلبية ضرورية للحفاظ على النظام الذي أتى بعد الخمير الحمر في كامبوديا.
الذاكرة والإدراك
يتم التعامل- من قبل غالبية التيارات العلمية، حول الوعي- مع الذاكرة وحفظ المعلومات على كونها آلية مجردة من أية ارتباطات مع ما تتلقاه، والطريقة التي يتم تلقي فيها المعلومات والمحيط نفسه، على الرغم من أن في علم النفس للذكريات تأثير مباشر على الشخصية والاضطرابات عند الأفراد. ولكن تأثير الذاكرة على صحة الدماغ وديناميته وعلى عامل الإدراك والوعي، لا يبدو واضحاً عند العلماء في هذه التيارات، الذين يدرسون الذاكرة وتطورها. فكيفية حفظنا للمعلومات واستعدادنا الدائم لاستيعاب معلومات جديدة ينبع من مدى تطور وعينا، وربطنا لجدوى هذه المعلومات مع تقدم حياتنا اليومية، وما نريده من الذاكرة أن يبقى موجوداً، وما نريد له النسيان. وكوننا لا نتحكم في هذا الاستعداد بشكل دائم بل هو مرتبط بطبيعة النظام الذي نعيش ضمنه، فتنظيم الذاكرة الجماعية خطير في ما قد يؤدي إلى محو جزء كبير من تاريخ شعوب كاملة من هذه الذاكرة. هنا تقف مواقفنا ومهماتنا في المحافظة على ذاكرتنا التاريخية الجماعية المرتبطة بما خضناه كشعوب، وما نخوضه وما سنصبح عليه إذا حافظنا عليها وإذا محوناها.