الفكرة كقوة مادية
تكمن قدرة الفكر العلمي الذي تقدمه الماركسية في كونه قادراً على الوعي بقوانين الواقع، ما يمده بالقدرة على الفعل فيه. بناء على هذه المنهجية عالجت القوى والتنظيمات الثورية(التغييرية) علاقة الفكر بالواقع من الناحية السياسية وعكستها في برامجها السياسية لتقديم الحلول العملية للمهام المطروحة على الشعوب حسب المراحل التاريخية المختلفة.
لكن إجمالاً تركزت قوة هذه المنهجية وأيديولوجيتها سابقاً على النفاذ إلى وعي القوى المقهورة في مجال تقديم الحلول لتناقضات اتسمت في المرحلة الماضية بجانبها المعيشي المادي المباشر من حياة الشعوب، إن كان احتلالاً أو استغلالاً جسدياً أو فقراً أو ظروف حياة يومية ملموسة. وهذا يشكل دليلاً على أن الفكرة قادرة على أن تكون قوة مادية كما تعتبر الماركسية، «حين تصير نفسها جمهوراً» كما اعتبر ماركس.
الجانب المعنوي
لكنّ جانباً مهماً من الفكرة أعلاه يظهر عندما يصبح وعي الشعوب متضمناً تناقضات جديدة، أشير إليها في المرحلة الراهنة على أنها تنتمي إلى الجانب المعنوي من حياة الشعوب وطموحها لنمط حياة ككل، فيه تتأكد إنتاجيتها وقيمتها الاجتماعية ليس بالمعنى الدفاعي، أي: رفض انتقاص الكرامة أو الإذلال، بل إيجابياً في قدرتها على الإنتاج والإبداع وأن تجد المعنى من وجودها.
توسيع القدرة على الفعل
الجانب المهم يكمن في أنّ توسيع قدرة الفكرة على الفعل في الواقع هي في قدرتها على أن تؤمن للمشروع الاجتماعي قدرته على الصمود، وليس فقط على تحققه الأولي، على أساس الوعد بالرؤية المستقبلية التي لامست حالة الشعوب، التي هي نفسها غير قادرة على القبض عليها بسبب تعقيدات الربط ما بين صراعات الأفراد المعنوية كأفراد(التي هي صراعات عامة اجتماعية وليست فردية في وجودها) بارتباطها بالتنظيم الاجتماعي وقوانينه غير الواضحة للعين اليومية، أي: عندما تعطي هذه الفكرة المستقبلية الأداة في فهم العجز الحالي أولاً عن حل المعاناة، وهو ما تجهد الشعوب بصعوبة إلى تفسيره وكأنها تلهث بكامل رئتيها ونَفَسها الطويل لكي تتحمل فشل محاولاتها إشباع حاجاتها وطموحها المعنوي، ليس فقط بسبب الظروف الاقتصادية التي تعارض أية محاولة للحل، بل كذلك لفشل الحلول الليبرالية التي قدمتها الرأسمالية كصورة «للنجاح» الفردي.
تفاعل ثنائي الاتجاه
هنا يمكن الانتقال إلى فكرة نظرية طالما ووجهت الماركسية أنها تقدم عكسها، أي: عدم اعتبار أي دور للبنية الفوقية في التأثير بالبنية التحتية الاقتصادية للنظام الاجتماعي، مع أن الماركسية لم تقل أبداً بأحادية تأثير القاعدة الاقتصادية الأحادي الجانب على البنية الفوقية. على هذا الأساس يمكن للبنية الفوقية الثقافية (الفنون الحقوق الأيديولوجيا...) أن تفعل في البنية التحتية بشكل يمكن له التقدم في جوانب محددة، لكي يتقدم، وتحقق ما هو في القاعدة الاقتصادية ممكن، ويتحقق بفعل الضرورة.
استباق الواقع
هذا لا يعني البتة أن الوعي ليس انعكاساً للواقع ومنفصلاً عنه، بل هو تأكيد على كونه انعكاساً غير سلبي، حيث إن ما يمكن للبنية الفوقية أن تعكسه هو الجانب من التناقض في صراع النقيضين حيث يصارع الجديد لكي يولد، الجديد الممكن في تناقضات تحمل فيها جواب حلها، وحمل الأيديولوجيا وبشكل واع لهذا الجديد الممكن في عينها النظرية يعني: أنها استبقت الواقع ومهدت له في الوعي.
زوال التناقض الاجتماعي
ليس هذا بالجديد، ولكن إبرازه نابع من ضرورة سياسية في هذه المرحلة بشكل أوضح من سابقاتها، وهي التي قيل فيها أن يوم تحقق مستوى من العدالة في المجتمع كما الاتحاد السوفيتي، فإن الشعب سينفض عن الحياة العامة وسيصير كسولاً لأنه شبع! هنا يبرز دور التناقض الذي ما زال فاعلاً في بنية المجتمع ولكن انتقاله النسبي من شكل إلى آخر لا يعني زواله الاجتماعي.
للتكثيف، إن البنية الفوقية أو لجوانب منها يمكن أن تحمل ثقلاً وازناً إلى جانب التغيير في القاعدة الاقتصادية، ليس فقط في كونها ستتأثر موضوعياً بالتحولات المادية في العلاقات الاجتماعية، ولكن في كونها في مرحلة التنظيم الواعي أن تتقدم هذه العلاقات المادية نسبياً، لتكون مساعداً على صمود التجربة المبنية لمدها بالطاقة والزخم، عندما يتم حل قضايا ملحة وتحصل حالة رضى اجتماعي معين يخف فيها الزخم، هذا في الظاهر، أما الضمني فإن عدم رضى جديد سيكون قد بدأ بالتشكل، ولا مجال للشك اليوم أن كل مستويات عدم الرضى فاعلة في أعلى حالاتها.
الإرادة تنبع من فكرة في الأفق، ترفع قدرات الفرد على التحمل والصمود والمواجهة، فليس كل ذلك شعارات، بل أثبت إمكانه، وللفرد أن «يغتسل بوعد أن الإنسان جميل حر» كما عبر الشهيد حسن حمدان(مهدي عامل).
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 827