شيخوخة العمر أم الدور الاجتماعي؟
من الضروري نقد التيارات العلمية السائدة في مختلف الميادين، للكشف عن الصراع ما بين الخط المادي التاريخي التغييري، والخط الرجعي ولو اكتسى هذا الأخير لبوس العلم والتقنية الحديثة، خصوصاً أن الخطاب العلمي أصبح من أدوات الصراع الأيديولوجي كما الثقافة والفنون والخطاب السياسي والتربية وغيرها، ومن هنا ضرورة الصراع الفكري في إطار العلوم.
الطب من الميادين التي يتداخل فيها الاجتماعي والعضوي الفيزيولوجي، ولكن بالنسبة للطب السائد يجري تغييب الاجتماعي في حياة الجسد الإنساني، في الأمراض الجسدية والعقلية على السواء، وإذا كانت مقالات سابقة في قاسيون لعدة كتّاب تناولت الجانب الاجتماعي لأمراض معينة كالسرطان وغيره، فإن ما يطلق عليه «اضطرابات أو أمراض الشيخوخة» يمكن أن تندرج في هذا السياق.
التمايز المعرفي
ومنصّته الممكنة
في مقالات سابقة حصلت الإشارة إلى المدرسة السوفييتية في علم النفس (الاجتماعي حكما) وعلوم الأعصاب والفيزيولوجيا، وأهم مطوريها «ا. ليونتييف» ونظريته حول «النشاط»، حيث يمكن لنا أن ننظر عبر عين هذه النظرية التاريخية الثقافية-المادية المستندة إلى الماركسية لكي نقوم بالنقد المطلوب للتيارات العلمية السائدة، ومنها «اضطرابات الشيخوخة» مثالاً.
بالنسبة لليونتييف (مستنداً لماركس، كما مطوراً لمؤسس النظرية ل.فيغوتسكي) فإن النشاط الإنساني هو المحدد لعلاقة الفرد بواقعه، إن كان في تكون وعيه أو في سياق تطور وعيه اللاحق وعملياته العقلية-الفيزيولوجية، ويقصد بالنشاط الممارسة الإنسانية المنتجة النابعة من حاجات الانسان والتي يتداخل فيها «المعنى» كعنصر أساس في النشاط وغايته.
انقطاع النشاط وأزمة الوعي
عن هذه العلاقة المادية للوعي بالواقع أعطى ليونتييف في كتابه «النشاط، الوعي، والشخصية» مثالاً عن جنود بترت أيديهم في الحرب وفقدو بذلك جانباً من صلتهم بالمحيط، فتشوهت مداركهم حسب تعبيرهم وتحول المشهد من حولهم إلى ما يشبه السراب فاقداً السياق والترابط.
الشيخوخة كأزمة دور اجتماعي
يجري النظر عامة إلى اضطرابات الشيخوخة وبغض النظر عن بعض الاستثناءات على أنها نتاج خلل دماغي يشار اليه بالتعبير الشعبي «نشفان بالراس»، وتعطى الأدوية والحبوب للتخفيف من الأزمة التي لا يعاني منها المتقدم في السن نفسه فقط، بل العائلة والمحيط ككل، لتكون مأساة فعلية في الغالب. والبعض الآخر يقول: رداً على العلاج الدوائي أن المسن يجب أن يبقى محاطاً بالعائلة أو أن يشغل نفسه في قضايا كان يمارسها أو هوايات مستجدة، ولكن في الحالتين يبقى أصل الأزمة مغيباً.
وعلى أساس نظرية «النشاط» المذكورة أعلاه فإن المجتمع الرأسمالي الذي يلفظ الإنسان في عمر معينة، حتى لو أمن له «رفاهية» ما في هذه المرحلة العمرية، يقطع عنه علاقته التي يعرفها بالواقع، وبالتالي يهشم له واقعه، وبالتالي تماسك بنية وعيه ومداركه، وتنهار صورته عن نفسه.
هذا التهميش واللفظ الاجتماعي يطال مختلف الأفراد في مجالات مختلفة، وحتى العاملين في المنزل من ربات البيوت، فالدور المرتبط بمهمة ضمن نظام العمل الرأسمالي وخصوصاً في ظل التقسيم العالي للعمل، يفقد اية قيمة منتجة للفرد، تشكل له منصته الموضوعية في صلته بالمجتمع، فيكون أسير الدور المرسوم له من قبل النظام نفسه.
هكذا تكون قضية «الشيخوخة»، هي قضية أزمة دور اجتماعي أكثر منها أزمة دماغية عمرية (دون أن ننفي تراجع قدرات جسدية أساسية في هذه المرحلة، التي لها دور في تراجع القدرات الاجتماعية للإنسان).
دلالة ملموسة،
الشيخوخة الاجتماعية
مؤشر على أزمة الدور الاجتماعي هي، أن عوارض الشيخوخة المتعارف عليها تصيب الفئات الاجتماعية ككل في مراحل عمرية مختلفة، وهذا مؤشر على أن التهميش والرفض الاجتماعي للإنسان أصبح سمة أساسية في عمر الرأسمالية في مرحلة أزمتها الحالية عبر انهيار الدور الاجتماعي، كتعبير عن انهيار السياق الاجتماعي الرأسمالي ككل وشيخوخته.
البعض من الذين يصلون لعمر التقاعد يقدمون على الانتحار، والبعض الآخر يفقد صلته بالواقع ويسقط صريع الفراغ، واليوم نرى أمماً بأكملها تشيخ باكراً، لفظها نظام «الحرية والليبرالية» الرأسمالي، نظام العداء للإنسان على طول الخط، فالبشرية من حق أمام مفترق طرق.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 825