العلم السّائد يعلن رجعيّته خوفاً
أيهما أسبق؟ وكيف؟ إذا كانت المثالية سبَّقت الفكر على الواقع، فإن المادية التاريخية(مع ماركس وانجلز) وصَّفت الوعي(الاجتماعي) بأنه «الوجود مُدركاً»، ومعها انتقل الصراع من ميدان الفكر «الخالص» إلى ميدان الصراع الاجتماعي-السياسي.
صحة الإجابة المادية التاريخية تُثبت واقعياً!
أثبت علم المجتمع والتاريخ الماركسي قدرته على تفسير المجتمع (والوعي) والإمساك بقوانين تطوره(ما)، بنجاح حركات التغيير بتحويل الواقع، التي تعدت ميدان الممارسة السياسية وعلم التاريخ والمجتمع إلى الطبيعة والعلوم المباشرة والرياضيات...
الصراع الفكري بين المادية والمثالية انعكاس غير ميكانيكي للصراع الاجتماعي
شهد القرن الماضي انتعاشاً للتفكير العلمي المادي بشكل عام، ولا سيما بعد نهوض الحركة الثورية في العالم، وبتأثير كبير لنجاحات الاتحاد السوفييتي خصوصاً، علمياً واقتصادياً واجتماعياً وصحياً. وبسبب الربط غير الميكانيكي بين الواقع والفكر، كمقولة أخرى للماركسية، وبسبب التراجع الثوري في النصف الثاني من القرن الماضي، أي بقاء الصراع الاجتماعي نفسه، بقي الصراع الفكري مفتوحاً ما بين المادية والمثالية، خصوصاً بعد الانتعاش للمثالية بتياراتها في العقود الماضية، وفي مجال العلوم كذلك.
مناورة العلم السائد وهوامشها التاريخية؟
كون العلوم السائدة المرتكزة على الفكر المثالي أداةً بيد القوى المستغِلّة لتشويه الواقع والتضليل، فإن العلم المباشر (الطبيعة والطاقة والبيولوجيا والفيزياء) له نزوع ماديّ كما أشار إنجلز بوضوح، لارتباطاته التطبيقية العملية في سياق تطور الإنتاج.
السؤال الفلسفي في مواجهة عمليّة مع العلم السائد، الواقع يلاحق المثالية
من العلوم المباشرة التي برزت وشهدت انتعاشاً في العقود الماضية هي التكنولوجيا والمعلومات، ومنها ميدان الذكاء الاصطناعي(والروبوتات)، الذي يشكل نقطة التقاء العلوم الاجتماعية(المجتمع والنفس) والتكنولوجيا.
يرتكز هذا الميدان على دراسة الذكاء والوعي لإنتاج نظم مشابهة في الآلة تحاكي الوعي البشري. فانعكس الصراع الفلسفي في هذا الميدان (النظم «المتفردة، مستقلة الحركة والتفكير»)، وبرزت من جديد مثلاً النظريات السلوكية النفسية(الميكانيكية) والمعرفية (الظواهرية) في نقاش الذكاء وكيفية محاكاته «اصطناعياً»، بعد أن أثبتت قصورها سابقاً في ميدان علم النفس والمجتمع.
ولأهمية هذا الميدان التكنولوجي اقتصادياً وإنتاجياً وبالتالي ربحية الرأسمالية (ولو كان يشكل في آن تناقضاً معها لتناقضه مع آليات عمل الرأسمالية في استغلال الإنسان كون الآلة تحل محل الأخير، وبالتالي أزمةً في إنتاج فائض القيمة ونظام الرأسمالية ككل)، ظهر تناقض حاد ما بين مثالية النظرية عن الوعي ومادية التطوير المادي فيه، كميدان. والميزة هنا حصول النقاش بمدة زمنية أسرع نسبياً من ميدان العلوم الاجتماعية سابقاً.
النظرة المادية التاريخية تطلّ!
في النصف الأول من القرن الماضي وضع ليف فيكوتسكي العالم السوفييتي مع رفاقه (لوريا خصوصاً) ومن بعده تلاميذه(ليونتيف مثلاً) نظريةً حول التطور الذهني للإنسان، وخصوصاً في المراحل الأولية، بالاستناد إلى الماركسية، وسماها النظرية المادية التاريخية في علم النفس (النمو أو التّطور) حيث اعتبر أن منشأ الوعي وبنيته وفي ملكاته العليا(التخطيط، التفكير،الوعي الذاتي...) يكمن في المجتمع، أي ظروف الإنسان في البيئة الاجتماعية والثقافية ودوره فيها. وبعد التغييب الذي طال إنتاج هذا التيار تاريخياً- مع أنه لم يكن ممكناً تجاهله في ميدان التربية والتعليم سابقاً- يعود بقوة ليفرض نفسه على ميدان الذكاء الاصطناعي، وتحديداً في تصميم الروبوت الذاتي السلوك(الممارسة) والآلات الواعية (المتفردة) والتطورية.
استعادة بغالبها
«انتهازية» مجتزأة؟
هذه الاستعادة من قبل بعض العلماء لهذه النظرية، كانتشار اسم فيغوتسكي في هذا الميدان، ومحاولة تصميم روبوتات تحمل اسمه، ليست من موقع التّبني للمنهجية والنظرية (الماركسية) التي أرسى عليها مع رفاقه أبحاثهم(خصوصاً أبحاث اللغة والفكر والممارسة)، ولكن استغلالاً مجتزأً ومفككاً لها، أي تفريغها من جوهرها العلمي ووحدتها. وعبرت بأغلبهاعن عدم معرفة أو تجاهل مقصود بمضمون النظرية التاريخية التطورية(الثقافية).
الـ«لاأدرية» تأخذ طابعاً مطلقاً
لن يحصل، من موقع المثالية، تطوير للذكاء الاصطناعي نحو الروبوتات المالكة لمحاكاة الوعي الإنساني ومعاني التطوير الفلسفية والاجتماعية، ومن هنا التدوير اليومي لزوايا القضية واختلاق تصاميم «تجديدية» تعيد إنتاج السؤال نفسه في أغلب المقالات العلمية: ما هو الوعي وكيف نحاكيه اصطناعياً؟
أمام عجز الإجابة عن طبيعة الوعي الاجتماعية، ما قد يكون اعترافاً بانتصار الماركسية على لسان قوىً تتعارض اقتصادياً وسياسياً مع النظرة المادية (حيث الداعم الأساس لهذا الميدان من العلوم والأبحاث هو: الشركات والحكومات الرأسمالية الكبرى) أطلّت مقولة «استحالة معرفة الوعي» على لسان أغلب الناشرين والباحثين، وللتلطيف يقال: أن «الوعي له طابع غامض»!
التقاء نظرية الوعي بالميدان الإنتاجي المادي الرأسمالي نفسه من باب الذكاء الاصطناعي، يضع النظرة المثالية عن العالم أمام التطبيق المباشر. ويشير إلى حدة التناقض الصريح اليوم ما بين تطور القوى المنتجة وبين علاقات الإنتاج(الرأسمالية) وفكرها(المثالي) الكابحة والمدمرة لقوى الإنتاج.
هذا الإعلان «الرجعي» بالجهل (وعدم تبني مثالية صريحة، لتعارضها مع التطبيق التكنولوجي) بطبيعة الوعي ومنشأه، يعبر عن جدلية تراجع التيار المثالي الرجعي(الإمبريالي) وتقدم القوى الحية والإنسانية ككل، ليس مرحلياً كما يبدو، ولكن على طور انفتاح التاريخ على ابتداء تاريخه، طاوياً «ما قبل التاريخ» منه.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 802