العلوم تضيق ببنيتها على أساس أزمة الرأسمالية استعادة الفكر الثوري للمبادرة العلمية والثقافية 1 من 2
محمد المعوش - لبنان محمد المعوش - لبنان

العلوم تضيق ببنيتها على أساس أزمة الرأسمالية استعادة الفكر الثوري للمبادرة العلمية والثقافية 1 من 2

لا حياد للفكر، ولا لأي شكل من أشكال الوعي، عن الصراع الذي طالما حكم التاريخ الاجتماعي وما زال يحكمه، ومعناه السياسي، ينعكس إما مباشرة أو غير مباشرة، حسب خصوصية كل شكل من أشكال الوعي، فناً أو أدباً أو ثقافة...

إنه الصراع التاريخي بين قوى التقدم، وبين قوى تثبيت القائم، والذي يتمثل اليوم من خلال صراع بين قوى الشعوب وقوى التحرر من الإمبريالية، وقوى رأس المال المالي العالمي، وعلى رأسها الولايات المتحدة، ومختلف القوى التي تحافظ على بنية النظام العالمي، بشكلها القائم، من نهب وتدمير للمجتمعات وخيرات الشعوب، مفككة المجتمعات والعلاقات فيها، مفرغة وجود الأفراد من البعد الإنساني، مشوهة الوعي والعواطف والقيم والأهداف، ما يفصل الفرد عن واقعه وعن ذاته، في تحقيق ملموس وتاريخي لمفهوم «الاغتراب». مستخدمة في ذلك مختلف الأسلحة، من عسكر وثقافة وأفكار، من أجل خنق ولادة انتقال الإنسانية إلى موقع التحرر، من ويلات الحروب والأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وتدمير الطبيعة، إلى موقع تحقق الحاجات المادية والمعنوية للإنسان.

انعكاس التناقضات في الوعي

مع اشتداد الأزمة البنيوية للرأسمالية، ووصولها إلى حدودها التاريخية، ما يعني انفتاح الأفق أمام بديلها التاريخي، متمثلاً بالاشتراكية، لاستعادة تقدمه وتحققه، لابد لأشكال الوعي أن تعكس حدة هذه التناقضات، التي تعبر اليوم عن عجز التيارات العلمية (البورجوازية) السائدة، في القدرة على إنتاج تيار نظري متماسك يحاول تبرير القائم ضمنيا، وتثبيته إلا من خلال إعادة إنتاج لما أنتج من مذاهب بورجوازية خلال الصراع الفكري طوال القرنين الماضيين، إضافة إلى ما أنتجه الفكر من مذاهب مثالية ورجعية خلال تاريخ الفكر الإنساني ككل، من عدمية وعبثية وفوضوية ورومنسية...

وهذا العجز له دلالته التاريخية في التعبير عن انفجار تناقضات النظام الرأسمالي، والشكل الواضح الذي تظهر فيه حتى للوعي «غير العلمي»، مع تطور وعي الفئات الاجتماعية المضطهدة والمستغلة، خلال المنتصف الثاني من القرن الماضي، نتيجة نمط الحياة الذي خلقه التحول في أشكال الاستغلال وأدواته، وانعكاسها على تطور وعي الأفراد وأشكال معاناتهم.

أزمة علم النفس

وإذا كان علم الاجتماع قد عبر عن هزيمة التيارات البورجوازية فيه، أمام المادية التاريخية، خلال خوض الصراع الفكري، على مدى القرن الماضي وتثبيت الماركسية نفسها كعلم المجتمع، فإن أزمة علم آخر تظهر متبلورة بوضوح اليوم، على ضوء بروز الجانب المعنوي، من معاناة الأفراد إلى جانب المعاناة المادية الملموسة، هي أزمة علم النفس. 

مواجهات فيلهلم رايش

والمواجهة ضمن إطار هذا العلم لم تكن معدومة تاريخياً، بل هي خيضت من خلال العديد من المفكرين الماركسيين خلال تطور هذا العلم، ومنهم السوفييتي ليف فيجوتسكي، مؤسس التيار المادي التاريخي في علم النفس بعد انتصار الثورة البلشفية في روسيا، وجورج بوليترز صاحب كتابي «نقد أسس علم النفس المعاصر»، و«أزمة علم النفس»، الذي يعتبر أن علم النفس يجب أن يدرس «الدراما الإنسانية» في إشارته إلى الحياة كما هي في حركتها، وواقعها المعاش، من خلال الوجود الإنساني المباشر. ومنهم فيلهلم رايش صاحب مقولة الصد من خلال الوعي والجسد رداً على الواقع المعاش وما ينتجه ذلك من اضطرابات في حياة مئات الملايين من البشر، نتيجة نمط الحياة المغترب في ظل الرأسمالية. لكن الصراع في إطار هذا العلم لم يشهد بروزاً خلال المرحلة الماضية، أي النصف الثاني من القرن الماضي بسبب التقدم المؤقت للرأسمالية عالمياً، ومحاولتها تقديم أوهام مؤقتة سرعان ما سقطت أمام الأزمات التي تولدها الرأسمالية. 

خَفَتَ هذا الصراع الفكري وتراجع، خلال تراجع قوى التغيير خلال المرحلة الماضية.

علم مكبوح

بعد تحول المعاناة المعنوية (النفسية) إلى معاناة شعبية عامة، في المجتمعات بشكل عام، خلال التطور التاريخي الحاصل، في المنتصف الثاني من القرن الماضي، فلم تعد محصورة بالطبقات الميسورة، كما ظهرت في بداية القرن العشرين، مع بروز تيار «التحليل النفسي»، أصبح هذا العلم مجبراً تاريخياً على التصدي للظواهر التي يطرحها الواقع، ولكن لأن الأسئلة على المستوى النفسي هي أكثر تحديداً ومباشرةً، فإن هذا العلم مكبوح عن تأدية دوره في تبرير الواقع، وتحديداً في مجتمعاتنا التابعة الأكثر تعبيراً عن أزمة الرأسمالية، في عجزها عن استيعاب تناقضاتها.