«أين البقرة؟»
يتدخل العلم في معظم الأحيان لحل المشاكل التي تواجه تقدم التطور البشري، وتعيق من تحقيق الرخاء للمجتمعات، في كل مكان، وهو يحاول على الدوام خلق المزيد من الحلول الجديدة التي تستبدل الأنماط التقليدية في الإنتاج لتحقيق حدود أعلى من النمو، لكن الأمر لا يبدو بهذه البساطة في بعض الأحيان، فقد يصبح الإنجاز العلمي موضع الكثير من الشكوك، وحجة لرفع منسوب الاستغلال، ويبدو أن «مووفري» هو أحدث مثال على ذلك.
يفتخر العالمين «راين بانديا» و «بيرومال غاندي» بما حققاه من سبق علمي جديد، إنه «مووفري»، منتج الحليب الأول في نوعه من العالم، فهو ببساطة لا يأتي من ضرع بقرة، ولا حتى نعجة أو ماعز، إنه ببساطة مصنع مخبرياً ليكون البديل الأفضل للحليب التقليدي الذي نعرفه جميعاً، ويبدو بأنه سيصبح على رفوف المتاجر قريباً جداً، بعد أن نظمت له إحدى أكبر الحملات التسويقية في الولايات المتحدة الأمريكية، يتوسع «راين» في شرح مزايا هذا «المنتج» الجديد، ويرى فيه بديلاً حقيقياً عن استخدام المزارع التقليدية التي تزج بالأبقار في أقفاص ضيقة، وتجعلها تخوض يومياً في فضلاتها وتعرضها للإساءات الجسدية والعذابات النفسية، بالإضافة إلى أمور تتعلق بتلوث البيئة، وصناعة الأعلاف وعمالة الأطفال، في تلك المزارع ليصبح هذا المنتج الجديد، حلاً سحرياً لدزينة من المشاكل في آن واحد.
البيولوجيا التعديلية
لنضع عينة من «مووفري» تحت المجهر، فقد تم إنتاج هذا الحليب عن طريق تعديل الشيفرة الوراثية، لبعض أنواع الفطريات البدائية، بعد أن أضيفت لها الكمية المناسبة من السكر، وهو ما يعرف الآن بـ«البيولوجيا التعديلية» كأحد أحدث أنواع العلوم المعاصرة المتعلق بقراءة الشيفرات الوراثية للكائنات، وإعادة ترتيب عناصرها، لخلق كائنات جديدة، لكن معظم تلك العمليات المستحدثة لم تخضع للكم الوافي من التجارب، وهي في الغالب غير مضمونة النتائج بعد أن عدّها الكثيرون منطقةً مظلمةً، تحتاج للكثير من البحث والاستقصاء قبل البدء بـ«العبث» بالحمض النووي في تلك الكائنات، كما أن «براين» و«بيرومال» يزعمان بأن «حليبهم» أفضل، لأنه خال من نسب اللاكتوز العالية، ولا يحوي على أنواع البكتيريا الأخرى، التي يحتويها الحليب التقليدي، فهو الحليب الذي يحتوي على «تشكيلة» من العناصر الست الأساسية التي تكون الحليب، ستة عناصر اختارها العلماء لتشكل «مووفري» بعد أن تم تنحية البقية، لا يعلم أحد بعد، ماهي الخصائص الفريدة التي تحويها تلك البكتيريا المميزة في الحليب الطبيعي، فهناك العديد من الاكتشافات الجديدة التي تطالعنا كل يوم، تتحدث بالمجمل عن الفوائد المستحدثة لعناصر غير متوقعة في أطعمتنا اليومية المعهودة، لم يهتم «براين» و «بيرومال» بكل هذا، «مووفري» سيحقق الكثير من الأرباح، فهو في النهاية، أفضل للمزارعين والمستهلكين في آن واحد على حد زعمهم.
خلق بدائل أكثر فعالية
لا يستطيع العاقل اعتبار «مووفري» حلاً على الإطلاق، فهو لم يحد من «معاناة» المزارعين اليومية، ولم يحسن من شروط استخراج الحليب من الحيوانات، حيث كان من الأجدى إلقاء المزيد من الضوء على دورة حياة إنتاج الحليب اليومية لمعرفة عيوبها واستدراك نواقصها، وكان من الأفضل لو تم تشجيع قيام التعاونيات الفلاحية المصغرة، التي تعتني بالحيوانات ضمن مزارع «عائلية» ترى في مواشيها حالة جميلة من كرم الطبيعة، بدلاً من دعم المزارع الضخمة التي تحشر مئات الأبقار في حظيرة معدنية صغيرة، يجب أن يدور الحديث عن أسباب انخفاض أجور الفلاحين، وندرة الدعم الحكومي لهم، يجب أن تضع الحكومات حداً لاستغلال الأطفال في تلك المزارع، وعلى العلم أن يأخذ دوره في ذلك، عن طريق خلق بدائل أكثر فعالية، للتخفيف من كل تلك العوارض السلبية للعملية التقليدية في الإنتاج، بدلا من أن تتجه الأنظار لمنتجات «مخبرية» من الحليب صنعتها مجموعة تسويقية، لم تصافح يوماً مزارعاً منهكاً أو رأت في حياتها ضرع بقرة!