مجرد لعبة..
أخرج الشاب المسلح بندقيته من تحت حزامه وبدأ بإطلاق الرصاص الغزير على غريمه الممدد على الأرض، أفرط في استعمال سلاحه حتى تحولت الجثة الملقاة أمامه إلى كتلة هامدة حمراء، تبدأ عندها بسماع الموسيقا الهادرة في الخلفية وهي تحيي «البطل» وتزهو بما صنعت يداه، إنه ليس مشهداً «داعشياً» معتاداً، إنها اللعبة الالكترونية الجديدة التي سيحبها الأولاد من كل الأعمار!
حمل مطلع الشهر الحالي الكثير من الأحداث الدامية التي التصقت باسم التنظيم الإرهابي الأشهر في العالم اليوم، لكن أغربها تلخص في نشر العديد من المواقع الالكترونية لمقطع فيديو صغير يتحدث عن نيّة تنظيم «داعش» الإرهابي إطلاق أول لعبة الكترونية للمجاهدين «الصغار»، تهدف كما تحدثت الأنباء إلى رفع معنويات «المجاهدين»، و«إلقاء الرعب في نفوس المعارضين للتنظيم»، موضحاً أن المحتوى «يضم كل التكتيكات العسكرية التي تساعد على تدريب الأطفال والمراهقين على مقاتلة قوات التحالف الغربي والإقليمي»، عندها سارعت الكثير من المواقع الإخبارية بتداول الخبر وتضخيمه حتى ظن البعض بأن اللعبة قد أصبحت في الأسواق فعلاً وهي تردد اسمها الرنان عشرات المرات :«صليل الصوارم»، لكن نظرة متأنية للأمر قد تفرد الكثير من الحقائق المغايرة بالتأكيد.
ما بعد ألعاب داعش
تحمل «ثقافة الألعاب الالكترونية» في منطقتنا الكثير من الملامح المستوردة، وكانت تعتمد في كثير من الأوقات على نسخ «غربية» تحمل الكثير من الإساءة للعرب على وجه العموم وتضعهم على الدوام في خانة القتلة والمجرمين، تحدثت العديد من الدراسات عن الآثار السلبية التي تخلفها تلك الألعاب بالذات على نفسية الطفل وتشكيل ملامح وعيه وتوجهاته الفكرية، وبالأخص بعد أن يلاحظ المرء تلك الجرعات الدموية التي تعتمد عليها سيناريوهات أحداثها، فتحولت تلك الرسوميات المنفذة بإتقان إلى منصة فكرية ترسخ الصور النمطية التي يود الغرب ترسيخها عن المنطقة العربية على وجه الخصوص، عندها عمد البعض إلى تشكيل الردود المناسبة من الألعاب عن طريق خلق منصات «عربية» الطابع والتوجه بالاعتماد على التطور المتسارع في مجال صناعة الرسوميات المتحركة في السنين الأخيرة والذي أخرج أسرار صناعة الألعاب من استوديوهات الشركات الاحتكارية التقليدية، لكنها وقعت في النهاية في ذات الفخ، التسويق المبرر غير للعنف المفرط.
صليل الصوارم
يمكن ملاحظة ذلك بشكل واضح في حالة «صليل الصوارم»، فاللعبة تعتمد بشكل كامل على رسوميات اللعبة الأشهر في العالم (Grand Theft Auto 5) التي يعرفها جميع الصغار، والتي لطالما لاقت الاستهجان الكبير من قبل الهيئات التربوية الغربية قبل العربية، فهي تتحدث باختصار عن رجل عصابات يعمل على تنفيذ مهمات دموية بشعة مقابل حصوله على المزيد من الأموال، حتى وإن تضمن الأمر قتله لمئات من سكان المدينة ونهب بيوتهم وسرقة سياراتهم ورشوة رجال الشرطة وملاحقة فتيات السوء وسوى ذلك من التصرفات المنحلة أخلاقياً والمرفوضة اجتماعياً، كما أن هذه اللعبة تسمح بتعديل هيئات شخصياتها وملامح المكان الذي تجري فيه أحداثها بالاعتماد على مقدار يسير من المعرفة التقنية، وهذا بالضبط ما حدث في حالة «صليل الصوارم»، فبدا المكان صحراوياً وتحولت الشخصية الرئيسية إلى شاب ملتح يرتدي السواد، مع بث مكثف للمقطوعات الصوتية «الجهادية» في الخلفية، دون أن تغيب الرايات السود عن زوايا المكان كلها ، وتبدأ الشخصيات الرئيسية بممارسة أعمال القنص والتفخيخ والذبح والتشويه والهجوم على المنشآت العسكرية بالأسلحة المتنوعة بعد أن تم اختيار التكتيكات الأنسب لتحقيق ذلك، انحلال أخلاقي من نوع آخر إن صح التعبير.
النصر المبين
في الحقيقة، لم يتم إصدار اللعبة بعد، ويبدو أنها مجرد مقطع ترويجي يهدف إلى خلق المزيد من المتابعين لأخبار ذلك التنظيم الإرهابي ولن تلحقه أي «لعبة»، لكنه حقق الضجة التي يبتغيها بعد أن وقعت الكثير من المنابر التقنية في الفخ، وساهمت في نشر الدعاية تلك بالمجان، كما أظهرت العديد من التعليقات اعجاباً شديداً وهوساً مفرطاً بما ستقدمه تلك اللعبة من «متعة» افتراضية، شطح الكثير في تحليلاته واصفاً إياها «بالنصر المبين على الغرب الكافر» بعد أن اعتبرها الرد المناسب على الغرب الذي استسهل تشويه صورة المسلمين حول العالم، دون أن يكلف نفسه عناء متابعة الفيديو الافتتاحي المخجل الخاص بتسويق تلك اللعبة، لقد وجد فيه الكثير من الشباب العربي المدمن على ألعاب العنف والحركة ضالته ظاناً بأنه ارتباط واقعي بالأحداث التي تمر بها المنطقة هذه الأيام وبدأت حملات واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي لنشر تلك اللعبة تقودها ذات المجموعات المضللة من الشباب والتي تلخص الأمر كله في إطار لعبة أو تجربة مثيرة.
رداً على شارلي ايبدو
إنها ليست مجرد لعبة، إنها بيان سياسي متكامل يستهدف الشريحة الأكثر تأثيراً في المجتمعات الأقدر على إحداث أي تغيير، ربما لم يسمع الكثيرون منا بعشرات الألعاب التي تعيد تمثيل أحداث «شارلي ايبدو» الفرنسية عن طريق شخصية «مسلمة» تطلق النار على مدنيين يطلون من النوافذ ثم تبدأ بـ «التكبير»، لقد تمّ تصنيف كل ذلك ومن دون خجل في إطار «الردود العربية» على «التحيز» الغربي وعنصريته ضد المسلمين على وجه الخصوص، وفردت لتلك الفظائع الرقمية الصفحات الطوال، هناك من يتعمد الحفاظ على إبقاء الغض من عقول أبنائنا حبيساً لرجعية فكرية مريضة لا تبتغي سوى القتل والدمار، فلابد من خلق جيل جديد قادر على حمل سلاحه و «ذبح» أشقائه إن استلزم الأمر، لقد تمت تجربة كل هذا من قبل، اسألوا الجنود الأمريكيين بعد الانتهاء من تدريباتهم الأسبوعية على «ألعاب القتل الافتراضي»، وتابعوا بتمعن ما تم تسربيه من دراسات تتعلق بتحوير الوعي وقتل مشاعر الجنود عن طريق وضعهم في «نموذج يحاكي ميادين المعارك» ليتم تحويلهم ببطء إلى آلات قتل صماء، يجب أن يبدأ كل هذا على شاشة افتراضية لا تلوث الأرض بالكثير من الدماء ولا تثير الكثير من الانتباه، لكن السخرية تكمن في استثمار تلك التقنيات عند البعض لزيادة قدرة احتمال جنودهم على تصفية أعداءهم بلا رحمة بينما يتم استثمار الأشكال البدائية من تلك التقنيات هنا لقتل بعضنا البعض.. ذبحاً!