«دمشق».. أخرى..؟

«دمشق».. أخرى..؟

استبدل سواد كثيف في السماء شمس الصباح الدافئة بألسنة من نار، كانت القذائف تسقط تباعاً في كل مكان، حذر وريبة، استبدلت نشاطات الناس اليومية، فرغت الشوارع من روادها على الفور، تكاد لا ترى أحداً على الإطلاق، ربما لأن الازدحام قد انتقل أيضاً إلى مكان آخر، شوارع «افتراضية» عديدة استقبلت في ذلك اليوم زوارها المعتادين وزواراً جدداً.

يبحث الجميع عن جواب على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، كان كثير من الناس قد خرجوا للتو إلى أعمالهم تاركين في منازلهم قلوباً مضطربة ارتاعت من أصوات الانفجارات المتلاحقة والقريبة، يفتش بعضهم عبر أقنية التلفاز دون جدوى، أبراج صباحية، وثائقي عن بحيرة ما، لا شيء، وكأنهم قد صموا آذانهم عما يحدث في الخارج، الأمر متوقع وهذه هي العادة، يرمي جهاز التحكم ويبحث مرتعشاً عن جهاز آخر، يرفع هاتفه المحمول ويعاود الاتصال، لا إجابة، ربما لا يقدر أحد على سماع صوت الآخر في هذه الظروف، يبدو الحل بسيطاً، يلج الجميع إلى الصفحات الزرقاء، الجميع هناك يتحدث عما يجري، وفي سيل التعليقات والتحليلات والأخبار الصادقة والمتوقعة وحتى الشتائم، سيجد البعض أخباراً قد تريح البال.
تغريدات مترجمة
بدأ الأمر منذ عدة أيام، ومن على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي بالذات، انطلقت التهديدات كـ «تغريدات» حانقة على موقع «تويتر»، جوبهت عندها على الفور بسيل من التعليقات أشعلت الفضاء الافتراضي السوري قبل الحدث بساعات، تضمنت في الحقيقة الكثير من الشتائم والشتائم المتبادلة، لكنها حملت للأسف تحذيرات جدية ومؤشرات عن نية بالتصعيد، يعي الكثير من السوريين بأن تلك الأحداث ستتكرر كلما اقتربت الأطراف المتحاورة إلى الاتفاق حول حل سياسي متكامل، كان التوتر هو المقصد الواضح، وقد تم الحرص على تعزيزه على قنوات التواصل الاجتماعي المتعددة التي يلج إليها معظم الناس يومياً، يتم ترجمة تغريدات «زهران علوش» قائد مجموعة «جيش الإسلام» المسلحة إلى أكثر من عشر لغات على الفور، هو أمر لاحظته إذاعة «شام اف ام» المحلية التي نشرت تقريراً خاصاً عن الأمر، وأضافت بأن هذه الميزة لا تتوافر حتى على حسابات كبريات الصحف العالمية، حيث يمكن للمتابعين قراءة كل ما ينشر على حسابه الرسمي بالعربية والانكليزية والفرنسية والفارسية والألمانية والتركية والصينية واليابانية والروسية ولغات أخرى، وكأن هناك من يعمل بجهد على توسيع قائمة المتابعين بشكل شبه يومي، لكن الحساب الرسمي هذا سرعان ما تم إيقافه لأسباب مجهولة منذ عدة أيام لتظهر مجموعة أخرى من الحسابات «غير الرسمية» من جديد.
يوميات هاون
يكتب أحدهم بحنق على صفحته الفيسبوكية: «لم الآن ..؟ ألم يحن الوقت لكي نتوقف عن إطلاق تلك الأحقاد على رؤوس المدنيين»، تلاحقه على الفور مجموعة من التعليقات المتقاربة، هناك الكثير من الحنق والغضب في مواجهة تلك الأعمال الجبانة، تكتب «جيهان» على إحدى الصفحات: «رأيت صورة سيارة تحترق أمام مدرسة ابنتي منذ الصباح، فقدت صوابي وحاولت الاتصال بها لكنها لم ترد، تركت الكثير من التعليقات تحت تلك الصورة أبحث فيها عن رد يثلج صدري، تتابعت الردود من أصدقائها على الفيسبوك، «هي بخير» قالوا لي.. «ستعاود الاتصال بك على الفور» وبالفعل قامت بذلك»، وعلى الصفحة ذاتها تنشر إحدى المدرسات صورة طلابها الصغار وقد افترشوا الأرض في الطابق الأول بعد ان ابتعدوا عن نوافذ صفوفهم، بدت وجوههم جامدة تنصت إلى أمر ما، حصدت الصورة الكثير من التعليقات بعد أن بدا وكأنها تختصر الكثير، قامت الكثير من «الصفحات الاخبارية» بإعادة نشرها مرفقة بالعديد من التحذيرات والأخبار عما يمكن سلوكه من طرقات آمنة، تنبري أخرى للحديث عن تفاصيل كل انفجار واحداثيات كل قذيفة، يعلق البعض على منشور أوردته صفحة «يوميات قذيفة هاون»: «أخباركم الدقيقة تلك تصب في مصلحة من يرمي تلك القذائف، إنه يستفيد منها لتصحيح رماياته»، يرد آخر على الفور: «ماذا تريد منا أن نفعل؟ هل يتوجب علينا أن نبقى في الظلام، يتوجب على الناس أن تأخذ حذرها»، ويعاود نشر خبر جديد بحماسة المراسل الحربي، يعلم بأن هذه الصفحة تحوي الكثير من المعجبين، يشير عندها البعض إلى بعض المبالغة، يتفق البعض معه ممن شهدوا على الحادثة ذاتها ، يختلف البعض الآخر، لكن الجميع يشارك، الجميع يصرّفون انعكاسات الحرب وضيق فسحة الأمل.
إرشادات غير رسمية
ينشر البعض عن صفحته روابط مباشرة وصور تعبيرية ساخرة لما بثه الاعلام «الرسمي» في ذلك الوقت، يشير بحرقة إلى اختفاء أي إرشادات عامة تدل الناس عن حال الطرق إلى المشافي والجامعات على تلك الشاشات، بدا وكأن الجميع «يغرد» على إيقاع الحدث ويفضي بما يعتمل في صدره بكل صدق، ينشر أحدهم إعلاناً عن حاجته لمتبرعين بالدم من زمرة معينة، فترى على الفور عشرات من المتبرعين ينشرون أرقامهم الخليوية تحت ذلك المنشور ويناشدون المحتاج الاتصال بهم على الفور لملاقاته إلى أقرب مستشفى، تشتد الدعوات لتسهيل عمل هيئات الإغاثة وتسهل مرور سيارات الإسعاف، ينشر البعض كلمات لا تحصى من الشكر للهلال الأحمر السوري بعد أن انتشل بعض الأطفال من المدارس المدمرة، يعاود البعض تنبيه الجميع إلى ضرورة ترك الأبواب والشبابيك مفتوحة حتى عودة الامان إلى مساء المدينة، يصر البعض على ضرورة ترك الطلاب في مدراسهم وعدم السماح لهم بالعودة إلى بيوتهم إلى أن يزول الخطر، «منشورات» و «تغريدات» متتابعة تعبر عن ارتباط أبناء المدينة الواحدة ببعضهم قبل أن تتحدث عن أي ارتباط «افتراضي» بالشبكة الاجتماعية، كانت القذائف تهدر في الشوارع تحاول أن تفصل الآباء عن الأبناء وتفرق بين الأزواج والأحباب لكن تلك الصفحات الزرقاء قد جمعتهم في صورة جميلة واحدة ضاق أصحابها ذرعاً بالحقد الأعمى من جهة واللامبالاة المقرفة من جهة اخرى، لم تكن يومها تلك دمشق «الافتراضية» أبداً، كانت تلك «دمشق» الحقيقية بامتياز.