فيروس «الرأسمالية»

فيروس «الرأسمالية»

شغلت الأحداث الدموية في أفريقيا العالم لبعض الوقت، بدأ فيروس «الإيبولا» يحصد المزيد من الأرواح إلى أن أصبحت الأرقام غير قابلة للتصديق، مئات الآلاف الآن قد قضوا نتيجة العدوى دون أن يتخذ العالم أي رد فعل حاسم للحد من تأثير هذا الوباء الجامح، لكننا لم نعد نسمع الكثير عن هذا الفيروس الآن بعد أن انشغلت الأنظار بأخبار أكثر أهمية على جبهات بعيدة من العالم، لم يتسن للكثيرين فهم هذا العجز العالمي ممثلا بمراكز الأبحاث والمؤسسات الصحية تجاه هذا الفيروس المتوحش، لكن يبدو أن الإجابة تكمن في دراسة  فيروس من نوع آخر، فيروس عانت منه أفريقيا والعالم منذ زمن دون أن يشعر أحد به.

ينتشر «الإيبولا» اليوم في مثلث من البلدان الأفريقية المنسية، سيراليون وليبيريا وغينيا، التي تحتل المراتب العشر الأخيرة بين دول العالم أجمع من ناحية الناتج الإجمالي القومي، إنها ببساطة أكثر الدول فقراً بعد أن قدرت تكاليف الطبابة التي تقدمها تلك البلدان الثلاث مجتمعة حوالي 40 دولاراً للفرد سنوياً، وهذا بالطبع غير كافٍ لمواجهة أبسط الأمر مما جعل تلك البلدان الموطن الأمثل لتفشي «الإيبولا» بشكل مرعب، ولمن لا يعلم، ومما ساهم أيضاُ في انهيار المؤسسات الصحية هناك في غضون أيام، فأغلق مشفى الأطفال الوحيد في كامل سيراليون أبوابه في الأسبوع الأول من الأزمة، وعجزت أسرة المشافي في ليبيريا، والتي يقدر عددها بأقل من ألف سرير على كامل الأراضي الليبيرية، عن استيعاب هذا الوباء.

بدأت الجثث بالتساقط

بدأت القصة من براري غينيا، عندها تم تسجيل بعض الحالات لذلك الفيروس، لكن الوباء انتشر سريعا إلى الجارات سيراليون وليبيريا وينطلق إلى المدن للمرة الأولى بعد أن انحصرت أنماط تفشيه السابقة بالمناطق المكشوفة والبراري الواسعة، صعق الجميع بعد أن بدأت الجثث بالتساقط في العاصمة الليبيرية «مونروفيا» وبدت حكومة الرئيس «ايلين جونسون سيرليف» عاجزة عن فعل أي شيء، سقطت المشافي والمراكز الصحية في غضون أيام وانتشر الخوف بين الناس فلزم المرضى بيوتهم على الرغم من إصابتهم بهذا الفيروس، مما ضاعف حالات العدوى بشكل مطرد، إلى أن تجاوز عدد الضحايا 2500 من مواطني تلك البلدان خلال بضعة أسابيع، هذا الرقم الذي مثل يوماً مجموع الوفيات بهذا المرض خلال الثلاثين عاماً الماضية!

فقر يعلو المناجم

نعلم جميعاً مقدار العجز والفقر الذي يترافق مع هذه البلدان، حتى ضرب بها المثل كأسوأ البلدان على جميع المقاييس، لكن الحال لم تكن دائماً هكذا في تلك الدول التي تسيطر عليها الحروب الأهلية والنزاعات القبلية، لقد ساهمت الدول الاستعمارية في سلب تلك الدول من كل مقومات العيش وها هي تساهم اليوم في السيطرة على الموارد الطبيعية الغنية لتلك البلدان عن طريق شركات «تمتص» كالعلق ثرواتها الباطنية وتعمل كـ«فيروسات» خبيثة على سلبها أسس أي نهوض اقتصادي، تلك الموارد التي قد تذهلكم بالفعل، فعلى سبيل المثال، تعد «ليبيريا» أحد أكبر البلدان التي تحوي الحديد والذهب على أراضيها، كما أنها تستضيف المعمل الأكبر لإطارات «بريدجستون» الشهيرة منذ العام 1926، كما تعد المستعمرة البريطانية السابقة التي تدعى اليوم «سيراليون» أكبر مصدري الألماس والأحجار الكريمة، بالإضافة إلى التيتانيوم، أحد أثمن المعادن في الصناعة اليوم، أما «غينيا»، المستعمرة الفرنسية سابقاً، فتحتل المراتب الأولى في تصدير الحديد والذهب والألماس واليورانيوم وتملك وحدها نصف مخزون العالم من الألمنيوم الخام! ذلك المخزون الذي تحتكره شركة «ريو تيلتو الكان» الكندية- الاسترالية منذ عقود، دون أن يرى أبناء غينيا أي دولار منها.

رئيس يرعى مصالح الاستثمارات

لقد عانت تلك الدول على الدوام من صراعات دموية أودت بحياة الكثيرين، تلك الصراعات التي قسمت البلاد وجعلت أمراء الحرب يتنازعون على حقوق الصفقات الاستثمارية مع الدول الغربية، وفي الوقت نفسه كانت الرأسمالية العالمية تتدخل بين الحين والآخر لقلب الموازين أو الدفاع عن بعض المصالح التي قد تتعرض للخطر نتيجة تلك الأحداث، وها هي اليوم تضع مصالحها قبل أرواح البشر في أفريقيا، حيث أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية نيتها إرسال جنود أمريكيين إلى هناك، لا يستطيع عاقل تبرير علاقة أولئك الجنود بالحد من انتشار الوباء، وكأنما هم قادرون على إطلاق النار عليه، لكن لعبة المصالح المعهودة تعتمد مقاربة أخرى تتلخص بحماية حكومة اللعبة الأمريكية « ايلين جونسون سيرليف »، الرئيس الليبيري الذي رعى مصالح الاستثمارات الرأسمالية في بلاده بكل إخلاص، والذي يواجه اليوم غضباً شعبياً عارماً، وسوف يتم استخدام أولئك الجنود في مواجهة العائلات المنكوبة والتخلص من الأصوات التي قد تقوض الحكم هناك، هذه هي القضية الأهم!

السكان كخسائر ثانوية

واليوم، أعلنت منظمة الصحة العالمية أن أعداد المصابين بهذا المرض ستصل إلى 1.4 مليون شخص عند بداية العام القادم، بينما قدرت مجموع المساعدات المالية للبلدان الثلاث بمليار واحد يتيم من الدولارات، هذه الأموال التي سجلت كتبرعات وشيكات لم تصرف بعد، كلام على ورق، بالإضافة إلى مغادرة الكثير من الأطباء المتطوعين أماكن خدمتهم خوفاً من إصابتهم بهذا المرض المخيف، لا أحد يهتم اليوم بحال تلك البلدان، لم يهتم أحد يوماً بها، بل انصب الاهتمام على ما تحوي تحتها، وكل شيء آخر هو أمر ثانوي، وسيتحول السكان المحليون من قوة عاملة تخدم معامل الرأسمالية العالمية إلى عبء يتطلب الرعاية الصحية المكلفة، العبء الذي يمكن الاستغناء عنه كخسارة بسيطة لا مفر منها، العبء الذي قد تقضي عليه مجاعة جديدة أو حرب أهلية أخرى على كل حال، على الآلات أن تدور دون توقف!