«لا ينصح به لضعاف القلوب»
رفع بندقيته عالياً أمام عدسات الكاميرات من أجهزة الموبايل المحمولة، وقف أمام مجموعته الخاصة من الملثمين في وسط صحراء مجهولة، ألقى ببعض الكلمات الصاخبة، وأشار إلى «الكفرة» المرتعشين داخل حفرة عريضة قد جهزت منذ دقائق، يعلم الجميع بأن الاوان قد حان، ها هي لحظاتهم الأخيرة، يصرخ حامل البندقية بهستيريا عارمة تلحقها صيحات «النصر» و«الثبات» من أتباعه الأوفياء، سرعان ما ستتوجه فوهات البنادق إلى الكتل اللحمية المكدسة داخل الحفرة تلك، وستتكدس الجثث المضرجة بالعشرات، لكن صيحات التهليل والنشوة البربرية ستبقى صادحة حتى نهاية المشهد هذا.
يبدو الوصف قاسياً، لكن المشهد أقسى بكثير عندما تشهده الأعين، وهذا بالضبط ما تعول عليه تلك المجموعات، لابد من نشر الرعب والخوف في قلوب الخصوم، وفي خلال ثوان، سيتحول هذا المقطع القصير إلى مشهد عالمي بفضل تقنيات الاتصال ومواقع التواصل الاجتماعي، وسيلاقي المتابعة الكبرى من الجميع مهما ابتعدوا عن تلك الصحراء، لتبدأ حرب من نوع آخر، الحرب على تلك المشاهد بالذات!
قامت شركة «تويتر» بإلغاء الحساب الرئيسي لما سمي «داعش» على صفحاتها فور سيطرة ذلك التنظيم على كبرى مدن العراق منذ أسابيع، ففقدت تلك الجماعات منفذها النشط الذي لم يتوقف عن بث أخبار «المجاهدين» منذ بداية الاحداث الدموية في المنطقة، كما قامت مؤسسات الدولة العراقية الرسمية بحجب العديد من خدمات الانترنت في المناطق التي وقعت تحت سيطرة تلك الجماعات، في محاولة متواضعة للحد من انتشار تلك «الفيروسات الشيطانية» ، لكن حساب «داعش» الرسمي قد عاد منذ أيام، وبنشاط فاق المعتاد، لم تلمس بعد إدارة «تويتر» هذا الحساب حتى الآن ولم تحرك ساكناً أمام «تغريداته» الجهنمية، يبدو حتى أنها لا تريد فعل ذلك، فبقيت «زقزقات التمجيد» لأفعال تلك الجماعات على الشبكة تتناقلها الجموع من المشتركين، وبدأت روابط مقاطع الفيديو بغزو أجهزة المستخدمين في معرض أسود للرؤوس المقطعة والأوصال الممزقة!
يطالعنا بعض المختصين بأخبار سيئة، «ببساطة.. لا يمكننا فعل ذلك»، والسبب واضح، هناك الكثير والكثير من المنشورات التي يجب مراقبتها، فموقع التواصل الاجتماعي الأشهر «فيسبوك» يعمل على نشر 300 مليون صورة جديدة كل يوم، بالإضافة إلى مئة ساعة من مقاطع الفيديو على موقع يوتيوب في كل ساعة من الزمن، وما يقارب 5 آلاف تغريدة في الثانية الواحدة! وكل هذا يحتاج إلى الكثير لمراقبته وتصفيته وحذف المسيء منه، ويضيف الخبراء، على المستخدمين أن يقوموا بمساعدتنا في ذلك، حيث يتوجب على أي منا إرسال الشكوى المناسبة إلى موقع التواصل الاجتماعي الذي يستخدمه حول التجاوزات التي تملأ منابر تلك المجموعات الالكترونية، وهذا بالطبع لا يكفي، لأن تلك الجماعات لا تتوقف عن بث تلك السموم من خلال «غرف» خاصة تحوي ما يلزم من العتاد والعقول على مدار الساعة.
لكن ذلك يطرح المزيد من التساؤلات، وبالأخص بعد التسريبات المثيرة للاهتمام عن مشاريع تقنية امريكية استخباراتية تتخذ من مواقع التواصل الاجتماعي حقلا مميزا للتجارب، ولجمع المعلومات عن جميع المشتركين في إطار عملية تجسسية كبرى، كما أنها تستطيع التعامل مع كميات مدهشة من المعلومات في الثانية الواحدة، فقد دلت الأرقام بأن ذلك العدد الكبير من المنشورات الالكترونية لا يشكل عبئاً يذكر أمام قدرة الحواسيب الخارقة على التحليل والمعالجة والتصنيف، وكأن من المطلوب أن يقتنع الجميع بأن هناك فريقا من البشر ينوي تفحص تلك المنشورات ليزيل المسيء منها على الفور! بالطبع لا، العمل مؤتمت حتى أدق التفاصيل، فالقدرة التقنية متوفرة، لكن النية غير متوفرة، هناك من يرغب ببقاء تلك المنشورات المرعبة على الشبكة لغاية خبيثة في نفسه.
«إنه كنز من المعلومات!!»،يقول أحد المحللين في وكالة الاستخبارات الأمريكية معلقاً على دعوات إزالة تلك المنشورات، ثم يستعرض أهمية وجودها على الشبكة، فهي تجتذب المهتمين وتمكن المحللين من معرفة مناطق توزعهم ونياتهم وطريقة عملهم ومشاريعهم الحالية والمستقبلية، يشير إلى كنز الاستخبارات هذا مستعرضاً أمثلة عن توقيف بعض من أخطر الإرهابيين في باكستان في السنوات الأخيرة من خلال مراقبة نشاط مكاتبهم الإعلامية على الشبكة العنكبوتية، ويشير إلى أن إدارته تشاركه في رأيه هذا على الرغم من عدم وجود تعليمات واضحة بهذا الخصوص.
على كل حال تبدو هذه الحجج واهية للغاية أمام المتابعين، فجميع المنشورات الالكترونية التي تشكك بمحارق الهولوكوست مثلا في ألمانيا محجوبة من قبل الحكومة الألمانية، والتي تعد بالطبع جريمة يعاقب عليها القانون هناك، وهذا الأمر يتم بنجاح تام، ودون تسجيل اختراقات تذكر، وعلى جميع المنابر الالكترونية، لذا يبدو بان الامر يتعدى نية الحكومة الأمريكية بمتابعة أصداء تلك المقاطع المقززة والمنشورات الحاقدة على الشبكة العنكبوتية العالمية، الامر أعقد بكثير من هذا، هناك من يريد أن تطالعنا تلك المشاهد يوميا أينما توجهنا، يريدها أن تصبح جزءاً لا يزول من عقولنا، هناك من يدير خطة كبرى في مكان ما تستهدف نشر وإعادة نشر تلك الأحقاد كي تبقى حاضرة على الدوام عبر تخصيص الموارد اللازمة لذلك، ليصبح هذا المتخلف الصارخ فوق تلة من الجثث ممثلا أحمق في مسرحية دموية يومية من دون أن يدري!