التدبير المنزلي القديم
أنظر حول الغرفة حيث تجلس الآن، بغض النظر إذا كانت غرفة دراسة او مكتبة او حتى غرفة نوم، سوف تلاحظ ترتيب وتنظيم محدد حتى وإن كانت الفوضة تعم المكان. يحب الإنسان المعاصر أن ينظم الأماكن المخصصة للسكن او العمل او النوم، بالرغم من أن العديد من الحيوانات تنظم أماكن سكنها مثلما يفعل النحل في خليته او النمل الأبيض في أعشاشه، فان البشر متفردون بطريقة أو درجة تنظيم أماكن سكنهم.
ترجمة وإعداد: علاء أبوفراج
للحديث عن الدليل الباكر للتنظيم الثقافي لأماكن السكن – التدبير المنزلي القديم – يجب بدايةً أن نوضح أين عاش أسلاف البشر، فحتى وقتٍ قريب جداً لم يشترط التدبير المنزلي وجود بيت، إذ أن أبكر أكواخ مبنية تؤرخ لحوالي 20,000 B.P. (B.P. قبل الحاضر). وحتى اكتشف أسلافنا الزراعة في حوالي 10,000 B.P. كان البشر يعيشون بمجموعات متنقلة مؤلفة من الصيادين والجامعيين وكثيراً ما تنقلوا على سطح الأرض ولم يستقروا في مكان واحد لأكثر من أيام أو أسابيع معدودة، بنمط حياة قلق، فقد كان من غير الملائم على الإطلاق امتلاك أو بناء مبنى كبيرٍ كبيت.
هناك العديد من الأدلة على أن أسلاف البشر قد أقاموا بأماكن متنوعة على سطح الأرض تتضمن أماكن الهواء الطلق أو الملاجئ الصخرية أو الكهوف، على الرغم من أننا لا نجد أي مرافق سكنية في أي من هذه المواقع، فإنه من المرجح بأن الناس قد عاشوا في خيام مصنوعة من الجلود أو شيدوا ملاجئ، ولكنها تحللت مع مرور الزمن، وعلى الرغم من أن معظم الأدلة لا تبقى لوقتنا الحاضر، فنحن نملك بعض مصادر المعلومات المختلفة التي تساعدنا في إعادة بناء صورة لنمط حياة أسلافنا في العصور الحجرية القديمة. كبداية يمكن لتوضع العظم والأدوات المكاني أن يعتبر مؤشراً لأماكن النشاطات. مثلاً وجود عدد وافر من بقايا أحجار مطروقة يدل على أن هذا موقع عمل، ووجود عدد من العظام منزوعة اللحم المجمعة (موقع تقصيب). والطقوس القديمة التي كانت تجري بالقرب من النيران أو المواقد تترك أثراً على الأرض، يمكن تظهيرها إذا ما كان التنقيب والبحث يتم بشكلٍ حذرٍ ودقيق. وتعتمد هذه الطرق النموذجية لإعادة تصور حياة أسلاف البشر على الملاحظات المجهرية بشكلٍ أساسي.
ميكرومورفولوجي (Micromorphology)
مؤخراً حققت طرق التحليل المجهرية تقدماً كبيراً في علم الآثار، وهذه العملية المنهجية كان لها كبير الأثر على ما نعرفه حول البنية الثقافية وتنظيم أماكن سكن الكرومانيون (الإنسان الحديث الأول والذي يؤرخ على 43,000 B.P. تقريبا) الذي استوطن عدد منهم في الملجأ الصخري الكبير في موقع «سبيدو» في جنوب افريقيا لأكثر من 40 ألف سنة خلال العصر الحجري الأوسط تاركين آثاراً متشعبة لهم على الأرضية.
باستخدام طريقة تدعى ميكرومورفولوجي (micromorphology) قام اختصاصيو «Geo-Archaeology» (الجيو-آركيولوجي: منهج متعدد الاختصاصات يستخدم تقنيات وموضوعات علم الجغرافيا والجيولوجيا وعلوم الأرض الأخرى لبحث مواضيع تخص علم الآثار) بتوضيح صورة الحياة اليومية لسكان هذا الملجأ الصخري. تقوم الدراسات الميكرومورفولوجية على أخذ عينات من الترسبات الأثرية الموجودة في الموقع، وتتم في المختبر معالجة وتقطيع هذه العينات على شكل شرائح شديدة الرقة، ويقوم الاختصاصون بدراستها تحت المجهر بدرجات تكبير عالية جداً.
ماذا اكتشف اخصائيو الميكرومورفولوجي؟
لاحظ الأخصائيون وجود طبقات بثخانة 1سم تحوي أنواع نباتات منضدة ومضغوطة والتي تعد إلى حد بعيد أبكر دليل على «فرشات نباتية" في العالم. على الرغم من أن هذا الاكتشاف قد لا يبدو مشوقاً في البداية ولكن لهذا الاكتشاف بعض الأهمية، فعمر هذه الفرشات الذي يؤرخ على 77 إلى 48 ألف تقريباً يجعل من هذه الحصائر النباتية أقدم بمرتين من أقدم أرضيات مجهزة بالنباتات، وعلاوة على ذلك فقد دلت الدراسات على أن البشر قد نظموا أماكن سكنهم وخصصوا أماكن للتصنيع والعمل والنوم. وقد قام السكان في بعض الأوقات بإحراق فرشاتهم بعد الاستخدام ربما للتخلص من الرائحة والحشرات، ليقوموا بعد ذلك ببناء حصائر جديدة فوقها، هذا بالإضافة إلى احتواء بعض هذه الحصائر على أنواع من النباتات مخصصة لطرد الحشرات الضارة مثل البعوض.
في دراسات سابقة في الموقع نفسه تبين أن السكان قاموا بإنشاء مواقد وقاموا بتمشيطها وتنظيفها بعد الاستخدام وتخلصوا من النفايات في المناطق المخصصة لها. هذه المكتشفات تشير إلى أن الكرومانيون في موقع «سبيدو» نظموا أماكن سكنهم الداخلية بطريقة منهجية حتى قبل أن تدخل الأكواخ التاريخ.
في الختام نستطيع القول إن أهمية هذه الدراسات تكمن بأن إعادة تنظيم أماكن السكن الموضحة في الأمثلة السابقة، قد تعكس إعادة تنظيم للحياة الاجتماعية ولاستراتيجيات الاستقرار، وحتى أنها قد تعكس أيضاً إعادة تنظيم لأدمغة أسلافنا.
باستخدام طرق التحليل القصصية نستطيع أن نفترض، بأن الأطفال في العصور الحجرية قد وبّخوا من قبل أهلهم لينظفوا «غرفهم» (مهما كان معادل هذه الكلمة في ذلك الوقت) لكن عدم التنظيف في تلك الأوقات قد يكون له عواقب قاسية مقارناً بأيامنا هذه مثل أن تقتل من قبل ضباع انجذبت للعظام الباقية من وجبة العشاء، أو أن تعدى بأمراضٍ بغيضة من قبل حشرة انسلت وراء رائحة نتنة في القمامة، وهذه دون شك عواقب أقسى من عقوبة يفرضها الأهل على طفلهم، هكذا عواقب قد شكلت دون شك عوامل ضغط انتقائية على سلوك وتصرفات أسلافنا مما ساهم بتطويرها والحفاظ على المفيد منها.