#مظاهرة_الكترونية
تحتاج ساعات العمل المرهقة إلى تخصيص بعض الوقت للراحة والاسترخاء، فالكثير من المقيدين إلى مكاتبهم، يفضلون إراحة الرأس إلى الوراء بعد أن أرهقت الشاشات المتعددة عيونهم وفعلت فعلتها بعظام الرقبة المتيبسة، يفضل البعض الآخر تحويل أبصارهم عن جداول الأرقام أو سجلات الحسابات الالكترونية إلى صفحات الانترنت
والجميع يعلم بأن تفحص الصفحات الشخصية أصبح اعتيادياً في نهار العمل الطويل، لا ضير من تفقد بعض الأخبار ورؤية ما يحصل حولنا، لقد أصبحت هذه الشاشة الوحيدة شباكنا الوحيد على العالم، أصبحت المصدر الاعتيادي لأخبار البلد أو المدينة أو حتى في الشارع الذي نقطن فيه، لقد عهدنا هذا في السنين الأخيرة، ولا بأس في ذلك إن أردت البقاء على إطلاع دائم بما قد يجري حولك، لكن الأمر قد يصبح مختلفا إن تحولت هذه التقنيات إلى اداة للفعل والتأثير بدلاً من الاكتفاء برد الفعل وترديد أصداء الأحداث، هنا يكمن الجدل، هل تستطيع منابر التواصل الاجتماعي تحمل هذه المسؤولية على عاتقها؟ وهل يجب عليها فعل ذلك أساساً؟
الحركة الالكترونية الجديدة
لن نتحدث عن دور تلك المواقع الالكترونية في موجات الحراك الشعبي التي نراها، تشتعل من حولنا طوال السنين القليلة الماضية، لقد حظي هذا الموضوع بحصته الكبيرة من الجدل، وكان لابد من وضع مقياس حقيقي لمدى التأثير الجدي لمنابر التواصل الاجتماعي على مسار الحراك الشعبي الشبابي، انقسم المهتمون إلى مؤمنين ومشككين بقوة تلك الحركة الالكترونية الجديدة، لكن الجميع أجمع على أن لها أثراً لا يمكن إهماله، بل لا يجوز إهماله في بعض الأحيان، لذا دعونا نتحدث عن أمر آخر يشغل بال العالم اليوم، عن حدث جديد في نيجيريا لن يجد له مكاناً مناسباً في نشرات الأخبار العربية المشغولة بتبعات «ربيعها»..
بوكو حرام
في منتصف الشهر الماضي قامت مجموعة إرهابية نيجيرية تدعى ««بوكو حرام» بخطف أكثر من مئتي فتاة من طالبات إحدى المدارس القروية شمال البلاد واحتجزتهن مهددة بقتلهن جميعا، بثت المجموعة المتطرفة مقاطع متعددة تظهر فيها الطالبات المحتجزات خلف عدد من الرجال المسلحين، يتوسطهم رجل يشبه أحد الأشرار في أحد المسلسلات الكرتونية، يحمل الإرهابي هذا ساطوراً مخيفاً ويردد بجنون عبارات التهديد والوعيد، يميل ويتراقص مع كل كلمة وهو يلوح بسلاحه، وترتعد خلفه جموع الطالبات، ترفرف خلفه أعلام سوداء لا تختلف أبداً عما رأيناه ونراه يومياً في بعض المناطق في بلادنا، تحمل نفس الكلمات وتنتمي لنفس العقلية، ومع انتشار هذه المقاطع بدأت الأصداء تتجمع من أرجاء العالم كافة استهجاناً لهذا العمل الجبان، كان «العصفور الازرق» بطل تلك التعليقات، بدأ الأمر بانتشار الشعار : «أعيدوا لنا بناتنا» مسبوقا بالطبع بإشارة الهاشتاغ (#) التي تميز زقزقات تويتر، وفي غضون عدة ساعات بدأ «المغردون» حول العالم بنشر تعليقاتهم عن الموضوع ممهورة بهذا الشعار، حتى حقق حضوره في مليار «تغريدة» خلال أقل من أسبوع!
«هاشتاغ»
ولمن لا يعلم، يعتمد موقع «تويتر» طريقة مبتكرة في تنظيم «تغريداته» حيث تسمح إشارة الـ (#) او HashTag بتصنيف التغريدة التي يطلقها أي من المشتركين في مجموعة محددة، بمعنى آخر يمكن مثلا متابعة جميع التغريدات المتعلقة باخبار مهرجانات الأفلام عن طريق «الهاشتاغ» الخاص بجوائز الاوسكار، أو متابعة أخبار الرياضة عن طريق الهاشتاغ الخاص بإحدى الفرق، أو الهاشتاغ Syria_War#» الذي يتابعه الملايين يومياً إن أرادوا بعض المعلومات عن الأحداث السورية اليومية، أي أنها الطريقة التي يعتمدها الموقع في تعبئة «تغريداته» الهائلة ضمن مجموعات خاصة تسهل عملية البحث والمتابعة، مما سمح للرمز (#) المتواضع أن يشكل نواة لأي تجمع الكتروني عالمي يبدأ بأبسط أخبار أيامنا، وينتهي بجمع الآراء عن القضايا المصيرية الكبرى، كما يجري اليوم مع (#Ukrain) الخاص بالوضع المتأزم في أوكرانيا على سبيل المثال.
يغردون
ينظر الكثيرون بإعجاب إلى هذه الطريقة العصرية في إبداء الآراء الجمعية حول القضايا التي تهم مجموعات الناس حول العالم، إنها طريقة عابرة للمسافات، تخترق الإجراءات الحكومية التي قد تحاول إسكاتها، لا تميز بين المشاركين فيها إذا تمنحهم حقاً متساوياً في إبداء الآراء حول ذات الموضوع وتفتتح فضاءً الكترونيا لا حد له بترك التعليقات والمشاركة بالكلمة والصوت والصورة، ولهذا تم استخدامها على الدوام لنصرة بعض القضايا أو إلقاء الضوء على بعض الحوادث، عن طريق زيادة عدد «المتابعين» أو «Followers» لـ «هاشتاغ» ما، وهذا ما حدث مع مجموعة «بوكو حرام» وقضية المخطوفات، شارك الملايين حول العالم بآرائهم حول الموضوع تحت الهاشتاغ الخاص بالقضية «BringBackOurGirls#»، سياسيون وممثلون وفنانون والعديد من المشاهير «غردوا» مطولاً تحت ذات الشعار، والكل يريد حلاً لهذه الحادثة الإنسانية المؤلمة، لكن أمراً استرعى الانتباه عندما دخلت «السيدة الأولى» على الخط!
السيدة الأولى
قامت «ميشيل اوباما» زوجة الرئيس الأمريكي بنشر «تغريدتها» الخاصة عن الموضوع مرفقة بصورة وجهها الحزين، لكن هذا «التعاطف» لقي نصيبه من التعليقات الساخنة، رأى البعض أن تقوم «السيدة الأولى» بنصح زوجها لإيقاف دعم تلك الجماعات في أفريقيا وغيرها من بلدان العالم بدلا من هذا التغريد الوقح، لم يقنع هذا النفاق الالكتروني ملايين المشتركين الآخرين، وبدأت حملات مضادة تهاجم «ميشيل أوباما» وتذكر بأفعال الإدارة الأمريكية وفظائعها في دعم الإرهاب والإرهابيين، آلاف الـ«هاشتاغ»ات خصصت لذلك، تقابلها مجموعات أخرى تتعاطف علانية مع «الجانب الإنساني الذي لم نره من قبل من داخل جدران البيت الأبيض»، لتبداً معركة افتراضية حول «تغريدة ميشيل» تلك، تقاذف فيها المشاركون تعليقاتهم ممهورة بال «هاشتاغ» المناسب، التهب موقع تويتر بهذه الضجة وتناسى الجميع بأن «بوكو حرام» ما تزال تلوح بسواطيرها في عالم غير افتراضي على الإطلاق!!
(لايكات) ومظاهرات
هنا بيت القصيد، أصبحت منابر التواصل الاجتماعي بديلاً مقبولاً عن حراك الشارع المعهود، عن التظاهر والتجمع الحقيقي الذي قلب عروشاً وزلزل دولاً منذ زمان ليس بالبعيد، استسهل الجميع ضغطات آلية على بعض الأزرار في اختزالية خبيثة للتعاطف أو الاحتجاج الحقيقي، أصبح ذلك النمط من التعبير الالكتروني كافيا، واقتنع الجالس أمام الشاشة بأنه قد أدى واجبه، آلاف النيجيريين تناقلوا الهاشتاغ : «BringBackOurGirl#»، وتوقف الحال عند هذا الحد تقريبا، تبعهم ملايين حول العالم دون أن نرى الكثير منهم خارج منزله، لا داعي للتظاهر أو رفع لافتات الورق المقوى كما جرت العادة، أصبح الشارع صامتاً بينما تصم ضغطات المفاتيح الآذان، لابد أن ذلك أسعد أصحاب السلطة و«أولي الأمر» في كل مكان بعد أن تم تحويل جميع مظاهر السخط الشعبي إلى «تغريدات غاضبة»، وبعد أن تنال شعارات التغيير مقدارها من «اللايكات» بدلاً من أن تملأ قلوب الشباب بنفحات التغيير الحقيقي الشامل، وربما ستفلت أولئك الفتيات من قبضة «بوكو حرام»، وسيعانقهن المئات من المناصرين في الشوارع، سيريهن أحد الفتيان عدد «التغريدات» غير المعقول ، ستنظر إليه إحدى الفتيات بدهشة وقد تجامله بابتسامة، لكنها ستشكر الله بأن مصيرها لم يكن معلقاً فقط بتلك التعليقات، لم تكن لترى أهلها في هذه الحالة ولو بعد مليار «تغريدة»!!