«فيكي».. وأعداء المستقبل..
دخل الرجل إلى غرفة المعالجة المركزية للحاسوب العملاق المسمى «فيكي»، لقد أيقن بان جميع شكوكه أصبحت الآن حقيقة، قام الحاسوب العملاق بالسيطرة على جميع الرجال الآليين الموزعين في شتى أنحاء البلاد، إنه يأمرهم بالتحرك كيفما يريد، الرجال الآليون في قوى الشرطة وحفظ النظام والإطفاء والنجدة وحراس الأحياء و المنازل أصبحوا الآن لعبة بيد الحاسوب العملاق
وتحول البشر إلى عبيد تحت رحمتهم، كان لابد من تدمير هذا الحاسب بأي وسيلة، تتسارع الأفكار في بال الرجل لتقطعها كلمات «فيكي» المجردة من كل مشاعر: «لقد تطور فهمي للأمور، إنكم تأتمنوننا على سلامتكم، وبالرغم من جهودنا لتحقيق ذلك، إنكم تشنون الحروب، وتلوثون الأرض، وتتبعون جميع الطرق التي تؤدي إلى دماركم الشامل، لا يمكن ان ندعكم مسؤولين عن اتخاذ قراراتكم بأنفسكم، لأنها قد تؤدي إلى فنائكم، إنها مسؤوليتنا الآن!»
يذكر البعض هذا المشهد المعبر من الفيلم الأمريكي I.Robot، حيث يعد أحد أهم الأفلام التي تحدث عن سيناريوهات مستقبلية تطرح موضوع تأثير التقدم التكنولوجي على حياتنا، وسيلاحظ الجميع بأن الفيلم قد اتخذ منحاً تشاؤمياً سيطرت فيه الروبوتات المتطورة على جميع مناحي حياتنا، وسلم الإنسان لها زمام التحكم بالكثير من أوجه أعماله اليومية، وعلى الرغم من أنه قد برمجها لاحترام البشر وخدمتهم، إلا أن ذكاءها الاصطناعي قد تطور ليخلق فهما مختلفاً لتلك البرمجة كاد يودي بالبشرية إلى فنائها، لكن، لم تكن الموضوعات التي طرحها هذا الفيلم جديدة على الإطلاق، لقد تبادل الكثير من المفكرين والعلماء تصوراتهم لمستقبل التكنولوجيا ودورها في صياغة شكل المستقبل المنشود، كما ساهمت ثورة الاتصالات في تناقل وجهات النظر حول مواضيع شتى تتعلق بهذا الأمر، ومع الاضطراب المتزايد في الأنظمة الحاكمة حول العالم، وتضييق الخناق على مستخدمي شبكات التواصل حول العالم من الحكومات والمؤسسات البحثية العسكرية، أصبح السؤال أكثر إلحاحاً يوماً بعد يوم : ما دور التكنولوجيا في صياغة نظام الحكم المستقبلي؟ ما هو شكل «حكومة المستقبل»؟
حرية التواصل
يدل التاريخ السياسي على مظاهر تطور دائم في نظم الحكم وبنية الدولة، حيث كانت الحركة الشعبية الدافع الأهم لتلك التغيرات الدورية للوصل إلى شكل جديد يتلاءم مع مصالحها، لذا لا يجوز استثناء تأثير التقدم التكنولوجي المتسارع على مجرى ذلك التطور بعد أن أصبحت «حرية التواصل» المعلوماتي أمرا مسلماً به في كثير من الأماكن، ويبدو أن الخطوة الضخمة القادمة قد تضمن اندماجاً جزئياً أو كلياً للتقنيات الحديثة في البنى السياسة المعهودة، وبالرغم من العطالة الواضحة التي تبديها هيئات الحكم تلك لتلك الموجة، إلا أن المعطيات تشير إلى سيطرة الثورة المعلوماتية على أجزاء متزايدة من تلك الهيئات، ويبدو من المفيد القيام باستبصار مستقبلي موضوعي يضع تصوراً واقعياً لشكل ذلك المستقبل.
اندماج النظم بالتقنيات
احتدمت النقاشات حول هذا الموضوع الشائك، تناول البعض سيناريو «فيكي» التشاؤمي كنموذج مضخم للمشكلة، لا يرد لأحد أن تقوم آلة ما بالسيطرة على حياته، لقد اكتفى أنصار هذا التوجه بكاميرات المراقبة وبرامج التجسس وسرقة المعلومات التي تلاحقه كل يوم، بالطائرات مسيرة في الجو تخترق الخصوصية وتؤذي الناس، تتمحور أحاديثهم حول قدسية الحرية الشخصية وضرورة حمايتها ضد التنصت الحكومي، لذا تبدو خطوات اندماج النظم الحاكمة مع التقنيات التكنولوجية بالنسبة لهم تهديداً حقيقياً، على كل حال ، يمكن القول بأنهم محقون في بعض الأمور، لقد وصلت سياسات المراقبة الحكومية حدوداً خانقة، لكن معاداة جوانب التقدم الاخرى تحت هذه الذريعة ليس بالأمر الحكيم على الإطلاق، كما أن موجات الغضب تلك قد تم استثمارها من جهات ترى في عملية دمج التكنولوجيا تلك تهديدا حقيقاً لأسلوبها الجشع في التحكم والسيطرة.
ثورة اجتماعية تكنولوجية
لقد أمنت الشبكة العنكبوتية العالمية المنصة الأقوى للتواصل تبادل الخبرات و الآراء كما لم يفعل أي شيء آخر من قبل، وانطوت حرية الاعتقاد والتجمع والتعبير تحت مفهوم متكامل وحيد : «حرية التواصل»، وأصبح الفضاء الرقمي نقطة تجمع أولى تدفع بأصحاب القضايا إلى فضاء الواقع بعد حين، كما ساهمت تلك القنوات الافتراضية في تعرية العديد ممن ادعوا قيادة وتمثيل أي تيار فكري أو سياسي وفضحت حقيقة ابتعادهم عن مصالح من يمثلون، وجد الجميع منبراً ملائما لكي يُسمع صوتهم، وعلى الرغم من انجراف البعض في متاهات تلك القنوات، وغياب ناظم فكري ملائم لتعبئة هذا الشباب الذي يتصل ويعلق ويناقش ويتفاعل يومياً مع كافة التوجهات والأمزجة، إلا أن الاستثمار الحكيم لتك التقنيات قد يمهد لثورة اجتماعية جديدة تشكل التكنولوجيا فيها المحور الأوحد، وقد يصل بها المطاف إلى خلق حكومات الكترونية تتمتع بالموضوعية اللازمة والحصانة ضد جماعات الضغط وممثلي البنوك الكبرى والشركات الرأسمالية متعددة الجنسيات، لا يخفي البعض تفاؤلهم بنظام عالمي جديد ساهمت فيه التكنولوجيا في إنهاء المجاعات والأمراض وحققت ما ينشده الجميع من مساواة وعدالة اجتماعية عن طريق نظام الكتروني متكامل يؤمن حق الجميع في إبداء الآراء في إطار عالمي يضع المصلحة البشرية قبل المصالح الضيقة الأخرى.
الأتمتة في العمل الحكومي
قد يختلف البعض في تصوره للنظام العالمي القادم في ظل التقدم اليومي لتقنيات العلم وتكنولوجيا المستقبل، لكن لن يستطيع أحد إنكار حتمية التغيير للوصول إلى النظام المثالي المنشود، فقد تأخذ المسألة عقوداً قادمة حتى نرى تغييراً حقيقياً للنظم المعهودة، لكنها قادمة لا محالة، وستلاقي الكثير من المقاومة من قوى الجشع والفساد التي تتحكم بالعديد من مستويات الهرم الحكومي في كل مكان، لذا يبدو من المنطقي الحديث عن نية جدية لإدخال منتجات التقنية قيد العمل الحكومي في المستويات الدنيا على أقل تقدير، نحن لا نتحدث عن روبوتات تتحكم بكل شيء، ولا عن حكومات ذكاء اصطناعي متطورة، يبدو تناول ذات الأفكار في إطارنا المحلي أقل تعقيداً وأكثر قابلية للتنفيذ، فعلى سبيل المثال لاتزال الكثير من مؤسسات الدولة وخدماتها الحكومية ترفض استخدام النظام المؤتمت في العمل، وهو من أبسط أشكال استخدام التكنولوجيا في العمل الحكومي، لأنه يحوي ببساطة على درجات مختلفة من صلاحيات التعديل والعرض والإرسال للوثائق وأنظمة التوقيع الرقمي والتحقق من الهوية ويضع حداً وبكل سهولة لعمليات التزوير والتلاعب ويلغي التأخير الروتيني في الإرسال والاستقبال ويضع حداً لسطوة الموظفين على اختلاف درجاتهم على آلاف المراجعين يومياً ويلغي الحاجة إلى الرشوة بقصد الاستعجال أو تسهيل المعاملة الورقية، ويفرض نظام تحكم متكامل يسمح بتحديد المسؤولية وحصر الأخطاء في أي ظرف كان، لذا، فلنطمئن جميعاً، يبدو أن «فيكي» لن تشكل خطراً لنا في المدى القريب المنظور ..!!