الأسود.. لون المستقبل..

الأسود.. لون المستقبل..

تجمع العمال في ساحة القرية، حمل الجميع معاولهم وبدأوا بجر عرباتهم تباعاً إلى السهل القريب، لقد اشتهرت هذه القرية بالتنقيب عن الملح منذ أكثر من مائة عام، وما على العمال اليوم سوى جرف تلك الكتل القاسية البيضاء ليتم نقلها لاحقاً، إلا أن أحد العمال لاحظ اليوم شيئا غريباً

سائل أسود لزج يرشح من الأرض قرب إحدى الصخور، تحلق العمال حول تلك الصخرة مستغربين، إنها المرة الأولى التي يرون فيها شيئاً كهذا، سيسبب هذا التسرب مشاكل عديدة، وكان لا بد من إيجاد حل لهذه «المشكلة اللزجة»، حدث هذا في العام 1845 في أحد حقول الملح الأمريكية، ولم يمض وقت طويل إلى ان قام صيدلي القرية «صمويل كير» بتحويل هذه المادة اللزجة إلى زيت ملائم لاحتراق المصابيح في الليل بدلا من استخدام الدهون الحيوانية، ليكون بذلك المستثمر الاول لأحد أكثر المواد طلباً حول العالم اليوم، المادة التي درات حول حقولها صراعات القرن الماضي الدموية.

نعم إنه النفط، الذهب الأسود الذي يحتل اليوم حصة كبرى من اقتصادات الكثير من الدول، محور النزاعات وجوهر الأزمات، لا غنى عنه في معظم اوجه الصناعة والتطوير ، حتى يبدو اننا قد لا نستطيع الاستغناء عنه على الإطلاق بعد ان دخل بقوة في كافة مجالات الاستثمار والبناء، لا داعي إذا لمناقشة آثاره السلبية على الصحة والبيئة وتحكمه الجائر بالسياسات والاهواء، قد يبدو الامر كذلك، لقد بقي الأمر كذلك طوال سنين القرن الماضي، لكن الأمور قد بدأت تتغير، وأصبح التفكير اليوم ينصب في مجال خلق «حلول بديلة».

المخاوف السياسية لضمان الإمداد

عاد الحديث عن الطاقة البديلة للظهور مجددا خلال الثلاثة أعوام الماضية, وهذه المرة كان أكثر حدة وأكثر إلحاحا ومدعوما بمعطيات إضافية تناقض ما حملته بيانات السبعينيات من القرن الماضي, لعل أبرزها التغير المناخي والعلاقة القوية بين حدوثه واستهلاك الإنسان للطاقة التقليدية. ترافق ذلك مع أسباب لا علاقة لها بالبيئة، هي المخاوف السياسية وضمان الإمداد النفطي والمخاوف من نضوب هذا الوقود الأحفوري، الذي لا يملك الإنسان معلومات دقيقة عن ظروف نضوبه ولا يملك القدرة على ضمان استمرار تدفقه من باطن الأرض.
ربما بدأ العمل في ذلك منذ وقت أبكر، تملك استراليا على سبيل المثال أحد أكبر مزارع انتاج الطاقة البديلة في العالم، عن طريق الرياح والشمس على وجه التحديد، لقد استطاعت أن تحد بشكل كبير من استهلاك الوقود الأحفوري عن طريق بناء أعداد هائلة من المراوح التي تستغل رياحها اليومية، ترافقها ألواح شمسية تستطيع تحويل شمس تلك الجزيرة الكبيرة إلى طاقة كهربائية تنير المدن في الليل، ستعلن تلك البلاد عن نظامها الكهربائي المعتمد على الطاقة البديلة بالكامل عند نهاية هذا العقد!

توليفات الطاقة البديلة

قام العالم «مارك جايكبسون»، رئيس برنامج جامعة ستانفورد للمناخ والطاقة بنشر أبحاث عديدة حول هذا الموضوع، لم يوفر هذا الرجل جهداً لتوعية الجميع عن ضرورة الانتقال إلى هذا النوع الجديد من الطاقة، وبسرعة، لقد أراد ان يدحض الدعاية المركزة التي تبثها كبريات شركات انفط والغاز حول عجز الطاقة البديلة عن منافسة الوقود الأحفوري، لقد أثبت منذ بضعة أسابيع إحدى اهم الحقائق، وخلص باستخدام برامج محاكاة حاسوبية اعتمدت على معطيات الاستهلاك داخل الولايات المتحدة الأمريكية إلى نتيجة مثيرة للاهتمام تعتمد على ايجاد «توليفة» مناسبة من تطبيقات الطاقة البديلة لكل ولاية من الولايات الأمريكية، وبالتالي يمكن للمزيج المناسب من طاقة الشمس والرياح والمياه وفق نسب محددة أن يلغي اعتماد الولايات المتحدة الأمريكية على النفط وللأبد.

حل لأزمات النفط

بالطبع، سيثير اكتشاف «مارك» حنق المسؤولين في شركات النفط بالتأكيد، لكن الرجل تابع في تفنيد حجج تلك الشركات وأثبت بان المزيج لمناسب من الطاقات البديلة سيغني البلاد عن بناء مفاعلات الطاقة النووية لتوليد الكهرباء، حيث يحتاج بناء مفاعل نووي لهذا الغرض اكثر من 11 سنة كي يدخل الخدمة، بينما يحتاج «الحل البديل» إلى أقل من نصف هذه المدة، يضاف إلى ذلك المقادير المخيفة من الغازات السامة التي تبثها تلك المفاعلات في الجو، كما أرفق بحثه ببيانات مالية تبين جدوى اقتصادية واعدة في مجال الاستثمار الجدي في الطاقة البديلة بالمقارنة مع ازمات النفط الحالية.

حرب إعلامية

لقد بينت الإحصائيات الأخيرة بان الاستثمار العالمي في الطاقة البديلة لن يتجاوز الـ 14 بالمائة بحلول العام2030، أي أن شركات النفط والغاز تقاوم هذا التوجه وبشدة، إنها تغرق أي مشروع بحثي جدي قد يتضمن الإشارة إلى استخدام بديل عن النفط، فقد لاقت صناعة السيارات العاملة على الهيدروجين حرباً إعلامية حطمت خطط التسويق بقسوة ودفعتها خارج المنافسة منذ البداية، إن تلك الشركات غير مستعدة للتخلي عن نمط مربح من العمل استمر أكثر من 150 عاماً دون توقف، كما ان استخدام هذا النوع من الطاقة سيحرر الكثير من البلدان من سطوة تلك الشركات بعد ان يصبح بالإمكان توليد الطاقة محلياً بكلفة قليلة وبموارد معقولة، سيتم استخدام ألواح خفيفة لالتقاط أشعة الشمس وبناء ما يلزم من المراوح، وبغضون القليل من السنين لن تستطيع أن تفرض أي دولة «عظمى» أي شيء على أقرانها، فلتحتفظ بنفطها لنفسها بعد ان تم تحقيق الاكتفاء الذاتي في هذا المجال، وبالتالي ستحارب شركات النفط الكبرى مشاريع الطاقة البديلة حتى الرمق الأخير، لكن ذلك التعنت قد يودي بنا جميعاً إلى مستقبل كئيب بعد ان تنضب تلك الموارد في الأرض مع انعدام أي تطبيق حقيقي بديل وفعال، إنه الجشع الذي يقوض خطط إنقاذ البشرية من أجل المزيد والمزيد من الاموال..