الانترنت.. ماذا بعد؟!
جلس على مكتبه وهو مفعم بالحماس والحيوية، كان الوقت متأخراً من ليلة الأربعاء العاصفة هذه، حبات المطر تطرق على الشباك بقوة تسابق أفكاره المتسارعة في رأسه، وضع يديه على لوحة المفاتيح وبدأ بكتابة الكلمات الاولى من مشروعه الصغير
لم يرد تضييع المزيد من الوقت، فقد ارتسمت المراحل الأساسية للعمل في مخيلته لكنه على يقين بأن عمله هذا سيكون مجهداً للغاية وسيستغرق شهوراً عدة لاحقة، إنه «توماس بيرنز لي»، المبرمج المتواضع في المركز الأوروبي للأبحاث النووية، كان هذا في إحدى ليالي العام 1989، لم يكن يعلم بأن اختراعه البسيط هذا سيغير وجه البشرية كما لم يفعل أي اختراع آخر، ها قد قام ببناء بعض المخططات الالكترونية على حاسبه المكتبي، أغلق الملفات مع طلوع الصباح، وطبع اسم المشروع على لوحة المفاتيح كي يتم حفظ تلك الملفات بأمان: «الشبكة العنكبوتية العالمية».
ربع قرن قد مضى على ذلك، وها هي البشرية جمعاء تحتفل هذه السنة بمرور خمسة وعشرين عاماً على اختراع «توماس» الثوري هذا، تغير الكثير من ذلك الوقت إلى الآن، فكل ثلاثة من أصل خمسة أشخاص أصبحوا اليوم على اتصال مباشر بشبكة الانترنت، كما تعمل الشبكة العنكبوتية العالمية كل دقيقة على نقل مئات الملايين من الرسائل الالكترونية وما يقارب عشرين مليون صورة رقمية وتتناقل ما تعادل قيمته 15 مليون دولار من البضائع والخدمات، مجدداً، في كل دقيقة! ينظر «توماس» اليوم إلى هذه الأرقام ويبتسم قائلاً: «مع حلول العام 1993، أصبح الانترنت في كل مكان، وقد كنت حريصاً منذ البداية على توفير الوسائل اللازمة لمشاركة جميع ما يرغب به المستخدمون على الشبكة العالمية هذه، لكن، لم اكن اعلم بأنهم يريدون مشاركة كل شيء يتعلق بهم، كل شيء..! كما هي الحال اليوم..»
يبدو «توماس» سعيداً بما تحول إليه اختراعه البسيط، لقد غيرت الانترنت كل شيء، وخلقت واقعاً افتراضياً كان المنصة المثلى لاكتشافات لاحقة كان لها الأثر الأكبر في دفع عجلة التطور في كل مكان وفي أي مجال تقريباً، لكن فكر «توماس» كما غيره من زملائه لا ينصب اليوم على ما جرى في ربع القرن الماضي، إنه اليوم قلق للغاية عما ستؤول إليه الاحوال في السنين القادمة، هناك تحديات ضخمة تواجه مستقبل هذه الشبكة، تحديات ستعمل على تقويض إحدى أسس هذه الاختراع : «حرية جريان المعلومات».
حيادية الإنترنت
إن مخاوف «توماس» مبررة ومشروعة، فقد أصبحت الانترنت جزءاً لا يتجزأ من حياة المليارات من البشر، خمسة مليارات في العقد القادم على وجه الخصوص، وها هو اليوم يحذر من قيام شركات الاتصالات الأمريكية الكبرى بخطف الفكرة الجوهرية التي ساهمت في انتشار هذه الشبكة وشعبيتها، أطلق الناشطون بالتعاون مع «توماس» على تلك القضية اسم «قضية حيادية الانترنت» وهي تقوم ببساطة على ضمان حرية انتقال المعلومات عبر عقد الشبكة العالمية دون أي اعتبار لمصدرها أو محتواها ودون أي عمليات «تصفية» أو «انتقاء» قد تقوم بها حكومات أو جهات غير رسمية، والأهم، دون أن تقوم أي جهة كانت بمطالبة المستخدمين بأي أجور لقاء حصولهم على تلك المعلومات، أي أن هذه القضية ستقف في وجه شكل جديد من «رأسمالية المعلومات» المدعوم من كبريات شركات الاتصالات الأمريكية والتي أعلنت في أكثر من مناسبة عن نيتها خلق «أحواض مخصصة» من المعلومات لا يصلها إلا من يقدر على دفع أجورها وستبقى بعيدة عن متناول «العامة» من الناس.
إنها الوسيلة الأحدث التي ستعمل من خلالها شركات الاتصالات العملاقة على التحكم بمصير الانترنت ومستخدميها، وسيدر عليها المزيد من الأرباح دون أي اعتبار لحرية الحصول على المعلومات والتي قامت عليها شبكة الانترنت في الأساس، فقد أعلنت شركات AT&T, Verizon ومثيلاتها من مزودات خدمة الانترنت الأمريكية عن خلق خطوط تناقل للمعلومات ذات سرعات عالية وبأسعار خاصة، وستعمل على حصرية تناقل المعلومات ضمن هذه الشبكات الخاصة والمكلفة بالطبع بين مستخدميها فقط، ولن يتمكن المستخدم العادي المزود بدارات متوسطة أو منخفضة القدرة على دخولها والاستفادة مما قد تقدمه، وبالتالي، سينقسم المستخدمون إلى طبقتين أساسيتين، تتمتع الاولى بحرية الوصول إلى جميع المعلومات التي يمكن أن تقدمها الشبكة بالاستفادة من الحد الأقصى من مصادرها، بينما ستعاني طبقة أخرى من الحرمان من تلك المصادر والاكتفاء بقنوات محدودة تخضع نوعية المعلومات التي تقدمها لإرادة تلك الشركات الكبرى ومدى «تسامحها» في إطلاق ما ترغب من المعلومات إلى العلن.
خصخصة المعلومات
على كل حال، لقد أثار ذلك المشروع زوبعة من الرفض من قبل الناشطين المدافعين عن حرية التعبير حول العالم، كما جذبت اهتمام العديد من المؤسسات الحكومية المعارضة لنهج الولايات المتحدة الأمريكية الإمبريالي والذي وصل اليوم إلى مرحلة «خصخصة» المعلومة العابرة للمسافات، لكن، بفضل الدعم والتساهل الكبيرين المقدمين من المؤسسات القانونية والحكومية الأمريكية، قد يصبح هذا التوجه حقيقة واقعة في السنين القليلة القادمة، وسيبدأ حلم «توماس» لحرية تناقل المعلومات عبر الشبكة دون أي قيود بالتلاشي أمام جشع مؤسسات الاتصالات الأمريكية الكبرى، ولتتحول تلك الشبكة العملاقة إلى ساحة حرب تتصارع فيها القوى حول العالم كي تنتزع كمية مقبولة من المعرفة من حضن من يعمل يومياً على احتكارها وتحويلها إلى الاداة العصرية المثلى للاستبداد والسيطرة.