«مرحباً..عذراً.. هل انت إنسان؟»
نظر الوجه الاصطناعي بعيون بشرية إلى الحاضرين، وأخذ يلتفت حوله كمن يرى هذا الجمع الكبير للمرة الأولى، توسعت حدقتا عينيه، ورفع حاجبيه مندهشاً، أخذت الدارات الالكترونية تعمل بنشاط في رأسه وتعالج جميع الصور التي تلتقطها عيناه
اقترب منه أحد المشرفين على هذا الحدث الكبير، وشق طريقاً بين جموع المصفقين والمعجبين من الحاضرين ، ثم بدأ بالضغط فوراً على بعض الأزرار ليعدل من حساسية «العينين» التي صدمت بكل هذا «الترحيب»، لقد ذهل الحضور من ردة الفعل «البشرية» الصادقة التي أظهرها هذا الإنسان الآلي، لقد استثارت أضواء الكاميرات الخاطفة حواسه وأخذ يلتفت متعجباً ووجهه البشري - الصنعي يعكس كل ما «يشعر» به.
«يشعر».. هل من الجائز قول هذا؟ هل يمكن لهذه المجموعة المرتبة من الدارات أن« تشعر»؟ لقد قام العلماء المشرفون على تشكيل هذا السبق العملي بتصنيع وجه كامل لهذا الروبوت، وجه بشري إلى أبعد الحدود، تحوي بنيته على عدد من الخلايا الذكية المصممة خصيصاً للتعامل مع انعكاسات الروبوت الشعورية، فكانت النتيجة مدهشة إلى حد كبير، إنه إنسان آلي قادر على التعبير عن نتائج تحليله لمعطيات الواقع عن طريق ملامح الوجه، إنه بلا شك سبق علمي مثير لكنه بالتأكيد سيثير عدداً كبيراً من علامات الاستفهام، أين سينتهي كل هذا وقد بدأت الروبوتات بـ«الإحساس»؟
إنه ليس بالسؤال الجديد، لقد أخذ هذا الموضوع قدراً كبيراً من الاهتمام، وقد تنبأت العديد من روايات الخيال العلمي بسيناريوهات سوداوية عن هذا الجانب من التطور التقني، رأى البعض روبوتات تحكم الأرض وتستعبد البشر، وقد تستخدم طاقة أجسامهم كبطاريات حيوية كما ترى سلسلة أفلام «Matrix» الخيالي، أو سلسلة the terminator الشهيرة، حيث تسعى الآلات للقضاء على البشر كلياً، وفي المقابل، تحدث البعض عن مستقبل يكون الاعتماد الكلّيّ فيه على الروبوت، سيكون موجوداً في كل بيت، سيقوم بكل الأعمال الشاقة، سيساعد البشر في شراء مستلزمات البيت من السوبر ماركت، سيعرف بالضبط مواعيد جرعات الدواء بالنسبة للمرضى؛ فضلاً عن أنه يتمتع بالذكاء الاصطناعي، أي أنه سيتعامل ليس كأداة ذات ردود أفعال محفوظة؛ بل كصديق ذكيّ ومثقف ستستمتع بالتحدث معه، أي أن هذه الفكرة قد سحرت وروعت الناس في آن واحد، بعد أن غذت الروايات والأفلام خيالنا الجامح، والآن يعد جيل جديد من آلات الذكاء الصنعي بطفرة في هذا المجال، وبعد أن أصبح أحدثها قادراً على إجراء العمليات الفكرية وإظهار الانعكاسات الشعورية الناجمة عنها.
على كل حال، التقدم التكنولوجي في هذا المجال مازال في مراحله الأولى، وستبقى هذه السيناريوهات في حدود الخيال إلى وقت ما، لكن ظهور الروبوتات«الحساسة» ذات الوجوه البشرية قد دفع بعض العلماء إلى معالجة هذه الظاهرة من أوجه أخرى، فقبل ثماني سنوات، كان «كارل ماكدورمان» يعمل حتى وقتٍ متأخر في جامعة أوساكا باليابان عندما دبت الحياة في جهاز الفاكس لديه حوالي الساعة الواحدة صباحًا وأخرج مقالًا عمره ٣٥ عامًا باللغة اليابانية أرسله إليه أحد زملائه، أسر المقال اهتمام ماكدورمان الذي كان يعمل وقتها على تصميم روبوتات تتسم بالواقعية المفرطة. حذر المقال أنه إذا ما أصبحت الروبوتات الاصطناعية تشبه الهيئة البشرية إلى حد كبير سيشعر الناس بالنفور. ومن ثم أعد مع زملائه ترجمة إنجليزية سريعة لهذا المقال وأطلقوا على هذه الظاهرة اسم «وادي النفور».
تتخلص هذه النظرية في أن سمات الوجه والجسم غير الطبيعية يمكن أن تدفع بعض الناس لتجنب الآخرين، حيث يؤمن بعض الباحثين أن التصميمات الاصطناعية الشبيهة بالإنسان تثير أعصابنا بشدة. كان المقال الذي قرأه ماكدورمان قد نُشر عام ١٩٧٠ بقلم عالم الروبوتات ماساهيرو موري، وكان عنوانه «وادي الخوف». وتناول المقال قدرة الروبوتات الشبيهة بالإنسان على إثارة شعور عجيب بعدم الارتياح لا تسببه الروبوتات الآلية الأخرى، حيث شهد عام ٢٠١١ مزيدًا من الأدلة قدمتها دراسة ثانية معتمدة على جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي. بدأ الباحثون في مراقبة النشاط المخي للأفراد وهم يعرضون عليهم مشاهد مصورة لروبوت آلي وإنسان وروبوت شبيه بالإنسان معروف بقدرته على إثارة رد الفعل المميز لظاهرة «وادي النفور». وقد شاهد المشاركون كلًّا منهم وهو يؤدي الحركة نفسها، إلا إن أحدهم تسبب في نتيجة مختلفة إلى حدٍّ ملحوظ، فعندما شاهد المشاركون في التجربة الإنسان أو الروبوت الآلي يسير، لم يُظهر المخ نشاطًا ملحوظًا، لكن عندما حاول مخ المشاركين استيعاب الروبوت الشبيه بالإنسان وهو يؤدي الحركة نفسها، زاد النشاط إلى حد كبير في القشرة الحركية والقشرة البصرية بالمخ.
لا تزال هذه الدراسة خاضعة للكثير من التمحيص، لكنها خلصت إلى نتائج هامة إلى الآن، فطالما ندرك أن الروبوت أو الشخصية الافتراضية ليس آدميًّا، فلن نسمح له بعبور «وادي النفور»، حتى إن وجد العلماء وسيلة لتصميم كائنات اصطناعية ذات سمات مطابقة للسمات البشرية، فقد تستمر في إثارة شعور بعدم الارتياح إذا عرفنا أنهم ليسوا مثلنا، ربما يكون هذا هو ما قصده موري عندما -عقب سنوات من كتابته لمقاله - سأله مراسل صحفي، عما إذا كان يعتقد أن الجنس البشري قد يتمكن يومًا من صنع روبوت يعبر «وادي النفور» إذ رد عليه قائلاً: «ولماذا نحاول أصلاً؟»
ربما تمثل فكرة استحالة عبور «وادي النفور» خبرًا سيئاً لمصممي الروبوتات، لكنها كذلك تمثل علامة على أمر سوف يجده الكثيرون مطمئنًا، ألا وهو وجود نوع بعينه من التعاطف لا يتبادله سوى البشر، وهذا مهم جداً في عالم مستقبلي يراه البعض مخيفاً، فقد يضطر أحدنا إلى سؤال الجالس بجانبه في المستقبل: «هل أنت روبوت أم إنسان» ؟!!