«العملة الافتراضية».. ثروات من الهواء
«من غير العادل تصنيف «العملة الافتراضية» على انها فقاعة ستنفجر قريبا في الهواء، فالطلب المتزايد على أنماط العملات الافتراضية يثبت حقيقة لا يمكن تجاهلها : لم يعد الناس قادرين على ائتمان الحكومات على أموالهم.»
كانت هذه خلاصة الصحفي البريطاني «مات رايدلي» في مقاله الأخير في صحيفة التايمز، وهو بالطبع لم يكن صاحب السبق في الحديث عن هذا المفهوم المركب علمياً واقتصادياً، فهو بلا شك سبق مثير للاهتمام وظاهرة جديدة تستحق الدراسة والتمحيص وهي تزداد انتشاراً يوماً بعد يوم ليثير فضول المهتمين باستثمار هذه الفكرة الجديدة كلياً.
يفيد التحليل العلمي المجرد هنا في الوصول إلى فهم أكبر لهذا المفهوم، فالعملة الافتراضية –أو كما تعرف باسم BitCoin- هي تجسيد الكتروني لوسائل الدفع متضمنة جميع المزايا المعروفة الخاصة بها مع إلغاء شبه كامل لدور الدولة التقليدي في انتاج العملة، ولمزيد من التوضيح علينا ان نتذكر بأن استخدام العملة التقليدية يعني انتقالها فيزيائياً من شخص لآخر، وقد يقوم هذا الأخير باستخدام هذه العملة من جديد، أي أن واحدة المال تدور بين الناس وهي غير قابلة للتعقب ولا تحمل أي علامة تدل على مالكها في أي وقت من الأوقات، وهذا ما تعمل "العملة الافتراضية" على تحقيقه عن طريق نظام الدفع الالكتروني الخاص بها، ذاك النظام المختلف تماماً عن انظمة الدفع الالكترونية الحالية القابلة للتعقب وكشف جميع المرتبطين بها.
ولتحقيق ذلك كان لابد من تصميم نظام حاسوبي معقد للغاية يشرف على جميع المناقلات المالية تلك، لذا تم بناء أكبر حاسوب فائق (Super Computer) في العالم، إنه الحاسوب القادر على إنجاز كوينتليون (واحد وعلى يمينه ثمانية عشر صفراً ) عملية حسابية في الثانية الواحدة!! حيث يقوم هذا «الوحش» الحسابي بـ«الدفع» للناس بالعملة الافتراضية والتحقق من صلاحية جميع المناقلات المالية بينهم، بالإضافة لخلق سجلات غير قابلة للاسترجاع لكل تلك المصاريف تعبر عن عملية انتقال ملكية ذات العملة من شخص لآخر وبالتالي لن يتم صرف أي عملة افتراضية مرتين، كما هي الحال مع العملة العادية تماماً. تم تطبيق ذلك بنجاح كبير، بنجاح فاق التوقعات، حتى أن البعض قد لاحظ نجاح استخدام هذا النمط من الدفع في عمليات غسيل الأموال أو الإتجار بالمخدرات أو التهرب الضريبي، لأنه ببساطة غير قابل للتعقب، كما هي الحال مع الأموال الحقيقية وعلى النقيض من عمليات الدفع الالكتروني المعتادة والخاضعة للقيود والرقابة.
لكن وراء الأكمة ما وراءها، فهذا النمط الجديد من الدفع «المستقل» عن الدولة يحظى بـ «تشجيع» الليبراليين وداعمي اقتصاد السوق المفتوح كصديقنا «مات رايدلي» على سبيل المثال، لأنهم يفكرون جدياً باستبدال العملة التقليدية بالافتراضية للتخلص من أزمتهم الاقتصادية المتفاقمة وتداعياتها من كساد وتضخم مع زوال العملة الحالية، ولخلق قوة شرائية من لا شيء، لكن هذا الأمر غير قابل للتحقيق على الإطلاق ولعدة أسباب، أهمها «حصرية» استخدام هذه العملة على شبكة الانترنت ولجوء العديد من المستخدمين إلى وسائل الدفع الالكترونية «الآمنة»، حتى أن افتراض زوال جميع هذه العوائق لن يحل الازمة الرأسمالية لأن تلك الأزمة لا تتعلق بعلل النظام النقدي المستخدم بل بطبيعة نظام الإنتاج الرأسمالي نفسه.
عل كل حال سيبقى هذا النمط الجديد يثير المزيد من الأسئلة، وهو يخضع اليوم للعديد من التطورات التي تعكس حاجة النظام الرأسمالي العالمي إلى حلول جديدة ترأب صدوع مركبتها الغارقة، لكنه يعد بلا شك من أهم الأفكار التكنولوجية المثيرة للجدل، وفاتحة جديدة لعالم غامض سيلقي بأثره على أدق تفاصيل العيش لكل منا.