نفط المنطقة الشرقية من نعمة إلى نقمة..!
شكل اكتشاف النفط في الجزيرة السورية في الستينيات بمساعدة الاتحاد السوفييتي آنذاك.. نقطة تحول في سورية والبلدان العربية والمنطقة، إذ لأول مرة يتم استثماره وطنياً....!
كما قامت الشركة السورية للنفط وبالتعاون مع شركة سوفييتية وشركة فرنسية جزائرية بمسح طبوغرافي للمنطقة الشرقية والبادية وحفر آبار استكشافية وأثبتت الدراسات وجوده بكميات جيدة وعلى أعماق ليست بعيدة، وبنوعية خفيفة قليلة الشوائب مما يعني أن عائداته الإنتاجية كبيرة..وصنفت منطقة دير الزور منطقة (أمل أول) لكن بعد ذلك لم تستثمر لأسباب لم تكن معروفة
في أوائل الثمانينيات أعطيت الامتيازات للشركات الأمريكية والغربية، بعقود مجحفة بحقوق الشعب والوطن، تلك التي لم تبذل جهوداً كبيرة حيث اعتمدت على الدراسات السابقة، وبدأت الاستثمار بشكل جائر لثروتنا الوطنية، وفي كل بلدان العالم تخصص مبالغ من العائدات لتنمية المناطق النفطية، إلاّ أن ما حصل أنها حرمت منها، وحتى من عمل أبنائها فيها إلاّ ما ندر، حتى الأعمال الخدمية، وناب المنطقة التلوث ولم يجر اتخاذ إجراءات تخفف من وطأته، وانعكس ذلك سلباً على أشكال الحياة فيها.
تدمير الآبار.. لماذا؟
منذ انطلاق الحراك الشعبي، سعت المجموعات المتطرفة المسلحة للتهديد بتدمير الآبار والمنشآت النفطية بحجة الضغط على النظام، ومن ثم مارست النهب والتخريب، فجرت سرقة بعض مستودعات تخزين المشتقات النفطية وقطع الغيار والآليات والأدوات، وبيعها بأثمان بخسة وتهريبها إلى الخارج، وفق خطط مرسومة تستهدف الوطن والشعب والاقتصاد، حيث قامت الدول الغربية برفع الحصار عن النفط المستخرج منها، وانخفض الإنتاج والتصدير الرسمي من أكثر من 300 ألف برميل يومياً إلى حوالي عشرين ألف إلى أن توقف بعد وضع المجموعات المسلحة يدها على كامل المنطقة، بانعكاسات سلبية على الشعب أضعافاً مضاعفة اقتصادياً ومعاشياً واجتماعياً وصحياً.
«جبهة الأصالة والتنمية»
أهم الحقول التي استولت عليها المجموعات المسلحة ونهبتها هي التيّم وحقل العمر والتنك والورد ومعيزيلة بالإضافة لحقول ومحطات ومستودعات الغاز، وذلك من قبل جبهة النصرة المدعومة من السعودية، وجبهة الأصالة والتنمية المدعومة من الكويت، بالإضافة لمجموعات أخرى وعشائر وعائلات وأفراد حيث كتب أحدهم لوحةً وعلقها على البئر وكتب عليها (بير الخلفني..) أي الذي أورثه له والده لأنه يقع في أرضه، وقد ولّد ذلك خلافات عشائرية وعائلية وصدامات مسلحة سببت سقوط قتلى وجرحى.
صهاريج تركية
إن العاملين في التكرير لا يشكلون نسبة 01% من أبناء المحافظة وغالبيتهم من أبناء الريف الشرقي، ورغم التسويات بين المسؤولين وبعض أمراء المجموعات المسلحة، للسماح بمرور كميات من النفط إلى مصفاتي بانياس وحمص لقاء مبالغ تقدر بمئات الآلاف والملايين إلاّ أن ذلك تراجع وتوقف، وبعد نفاذ الكميات الكبيرة في مستودعات التخزين في الحقول، بدأت المجموعات المسلحة والأفراد باستجرار النفط الخام وتكريره بطرق بدائية جداً، بصنع حراقات صغيرة حيث يباع برميل النفط الخام بمبلغ 2500 ليرة وبعد تقطيره واستخراج البنزين والمازوت والكاز يصبح سعرها بين 10000 و11000 ألف ليرة ويجري بيعها وتهريبها إلى الداخل والخارج بصهاريج وخزانات جاءت خصيصاً من تركيا، وقد بلغت أرباح المتاجرين المليارات، وأصغرهم يوميته حوالي 50 أو 60 ألف وقد بلغت البجاحة بأحدهم أنه غلى إبريق الشاي بمليون و200 ألف ليرة حرقاً، وبعضهم كان لا يعد النقود وإنما يزنها وزناً، ورغم عدم وجود إحصاءات دقيقة إلاّ أن خسائر القطاع النفطي المادية تقدر بآلاف من المليارات عدا الآلات والآليات والبناء، وغيرها من مستلزمات الإنتاج حيث كان الجهلة يفرغون براميل الزيوت المعدنية ذات النوعية العالية في الأرض والتي قيمتها مئات الآلاف من الدولارات، ليملؤوها نفطاً، عدا الخسائر الاقتصادية كانت هناك نتائج لاتقل خطورة وهي المشاكل البيئية والصحية، وإذا كان من الممكن معالجة النتائج الاقتصادية خلال سنوات، فإن المشاكل البيئية والصحية كلفت أضعافاً مضاعفة تحتاج إلى عشرات السنوات ومبالغ أكبر بكثير، فالنفايات السابقة لاستخراج النفط كان يجري التخلص من غالبيتها سابقاً، وخاصةً الغاز حيث يجري حرقه بدل استثماره والاستفادة منه، أما اليوم فقد طالت النفايات الهواء والماء والتربة حيث يتم التكرير بالحراقات البدائية.
غمامة سوداء
من يمر من المنطقة وعلى مسافة عشرات الكيلومترات يرى الأدخنة السوداء والشعل الممتدة من شرق مدينة دير الزور إلى البوكمال على الحدود العراقية، وتحولت المنطقة إلى غمامة سوداء تلقي بسوادها على كل ما حولها كالثروة الحيوانية، ما رفع نسب النفوق والتشوه كثيراً، وتحول صوف الأغنام إلى اللون الأسود، وتلوثت التربة ببقايا النفط المقطر التي تلقى حتى في النهر، ما انعكس على المزروعات ورفع المستوى الحروري، ونسب التصحر نتيجة التلوث، وخرجت آلاف الهكتارات من الأراضي من الزراعة، وما تبقى منها صالحاً تلوث فيه الهواء والماء حيث تغلغلت المواد الملوثة حتى في المياه الجوفية مع نهر الفرات.
أمراض منقرضة تعود
إن إعادة تأهيل الأراضي الزراعية يحتاج إلى جهود كبيرة في الاستصلاح وغسيل التربة واستخدام سلالات نباتية مقاومة ومنقية للتلوث الذي أصاب البيئة، أما الأخطار الصحية على المواطنين وهي الأكثر خطورة، فقد تجلت في عودة ظهور كثير من الأمراض التي انقرضت أو كادت تنقرض كالكوليرا، وأمراض صدرية تنفسية كالالتهاب الرئوي والربو خاصةً لدى الأطفال، وظهرت تشوهات ولادية عديدة، كما انتشرت الأمراض السرطانية والتهاب الكبد الوبائي بأنواعه واللشمانيا، ناهيك عن الحروق الجلدية المباشرة وتغير لون البشرة، وكل ذلك أدى إلى ضعف المناعة، وبالخصوص لدى النساء والأطفال وغالبية الشباب العاملين في تكرير النفط وهذه خسارة بشرية لا تعوض.
جريمة كبرى تاريخية
أهم الحلول الضرورية المستعجلة لإيقاف أولي للأخطار البيئية والصحية، هو الوقف الفوري لعمليات التكرير ومنعها في السنوات القادمة، وتوفير كميات مضاعفة من الأدوية العلاجية واستعادة الكوادر الطبية التي غادرت المنطقة في غالبيتها، وتجهيز مشافٍ في كل المدن والقرى والبلدات، وتوفير كميات كبيرة من المواد الغذائية ذات القيمة الغذائية المناسبة لتقوية مناعة الأجسام، لا شكّ أن ما جرى جريمة كبرى وتاريخية بحق المنطقة وأبنائها، وما جرى لم يكن في غالبيته عشوائياً، وإن كان للجشع المادي والجهل نصيب، فقد أصيب أحد الذين عملوا بالتكرير بالسرطان بعد أن حصل على 35 مليون ليرة، ويقول للطبيب خذها ودعني أعيش.. لقد أصبح نفط المنطقة الشرقية نقمة على أبنائها والشعب والوطن بدل أن يكون نعمة.