كرة القدم والصراعات السياسية
كرة القدم لم تعد مجرد رياضة، إذ تدخلت فيها السياسة والاقتصاد كثيراً. وفي العقود الأخيرة، ظهرت في ملاعبها، بخاصة الأوروبية منها، سلوكيات وأفكار دخيلة على روحها الداعية الى التآلف والصداقة، مثل: العنصرية والتطرف والمجاهرة بشعارات ورموز محظورة كالفاشية. برنامج «آرتي» التلفزيوني «جنون الكرة... اليمين المتطرف في الكرة الإيطالية» يأخذ إيطاليا مثالاً عليها ويذهب الى مدينة تورينو، موطن نادي «يوفنتوس» أو كما يسمونه هناك تحبباً «يوفه»، ليرصد بعضاً من تلك السلوكيات المتشددة.
بعد عرضه مشاهد فيديو مصوّرة تظهر بوضوح الفوضى العارمة التي يحدثها بعض مشجعي «يوفنتوس» في مدرجات الملاعب، ورفع أغنيات تمجد الفاشية الإيطالية والقوة، ينتقل الى مقابلة واحد من أشد مشجّعيه تطرفاً، اسمه بيبه فرانسو، مشجع للنادي بالوراثة، يحمل أفكاراً يمينية متطرفة ويلعب دور القائد لمجاميع تحمل الأفكار ذاتها. ولا يتردد فرانسو بإعلان انتمائه السياسي: «نحن مشجعي النادي مثل الأخوة، عائلة، نؤيد اليمين سياسياً، ونحن أحسن مشجعي «الأسود والأبيض» على الإطلاق».
ولا يكتفي فرانسوا بتنظيم صفوف المشـــجعين المتـــطرفين وترتيب تحركاتهم وشعاراتهم، بل يوشم جسده أيضاً بلونيّ قميص فريقه: الأسود والأبيض. يدخل الوثائقي معه الى مطعم خاص قبل مباراة حاسمة يخوضها النادي، ويسجل بعض حواراته مع صاحبه حول الشعارات التي يريدون رفعها. على جدران المطعم، علقت صور الزعيم الفاشي موسوليني الى جانب شعارات وجمل مخطوطة من خطاباته. المطعم يبدو لحظتها كخلية سرية تستعد لتنفيذ عملية مسلحة.
لا يوصم الوثائقي كل مشجعي النادي بلون واحد، فليسوا كلهم يميناً متطرفاً بل ثمة كثيرون منهم لا يرضون بما يفعله المتشددون، الذين يحولون الكرة الى ساحة للصراعات الأيديولوجية، من بينهم: دومينكو مونغو، الأستاذ في معهد التكنولوجيا العالي ومؤلف كتاب «أنا أكرة يوفه»، وفيه يسجل تحفظاته على سلوك المشجعين الذين أقحموا السياسة في الرياضة ويستغلونها للتعبير عن مواقفهم العنصرية وسواها من القضايا الاجتماعية.
ينصح مونغو طلابه بالابتعاد عن هؤلاء لأنهم يشوّهون روح كرة القدم، التي يحبها هو أيضاً ويشجع نادياً آخر يميل الى اليسار الإيطالي. يعرض تسجيلات تؤكد كلامه وكيف أن المشجعين المتطرفين لا يعبأون بجمال اللعبة ولا يتابعون المباراة بمقدار تركزيهم على رفع الشعارات المتطرفة وإحداث الشغب والدخول في معارك مفتعلة مع مشجعي الخصم. يؤكد الأستاذ لطلبته أن «النوادي الإيطالية اليوم كلها تقريباً سياسية وأيديولوجية، حوّلها اليمين المتطرف الى ساحة له ليعلن من خلالها مواقفه ويجد في حضور الجماهير إليها ونقلها تلفزيونياً فرصة لتوصيل ما يريد توصيله الى الناس».
ينقل الوثائقي بالأرقام عدد ضحايا أعمال الشغب في الملاعب الإيطالية، ويشير الى وفاة أكثر من مئة شخص خلال العقود الأربعة الأخيرة. وللتأكد من أقواله، يذهب الوثائقي لمقابلة مسؤول أحد نوادي مدينة تورينو الشمالية ومن المعروفين بتأييده الحزب اليميني المتشدد «القوة الجديدة». يعرض لوجي كورتيز على معد الوثائقي تسجيلات وصوراً توثق نشاط الحزب الذي ظهر كحركة قومية متشددة تتخذ من أفكار موسوليني منهجاً لأعماله التي تتجاوز كرة القدم بكثير. يخرج كورتيز مع عدد من مؤيدي ناديه الى شوارع المدينة ليلاً لـ»تنظيفها» كما يقولون «من الأشرار والمتطفلين الأجانب، بخاصة السود منهم والوافدين من شمال أفريقيا».
تورينو المدينة الصناعية أنجبت نفسها فرقاً كروية رائعة لم تُدخل السياسة في نشاطها. يذهب الوثائقي لتصوير نصب تذكاري لأعضاء فريق «نادي تورينو» الذين قضوا جميعاً في حادث اصطدام طائرة وقع عام ١٩٤٩، وهناك يسجل زيارات كثيرين من أهالي المنطقة للنصب ووضعهم باقات ورود، رغم مضي أكثر من ستة عقود على الحادث.
يكتشف الوثائقي أثناء متابعته تحركات قادة المشجعين المتطرفين، تنسيقاً يجري بين بيبه ومؤيدين للحزب النازي الجديد حول تحركاتهم وتوحيد شعاراتهم داخل الملعب، ويكتشف أيضاً كيف يلعب هؤلاء القادة دوراً مدروساً في تحريك الجموع غير الواعية للأهداف المبطنة وراء تشجيعهم الأعمى والجنوني. في توديع حامي هدف النادي والمنتخب الإيطالي العملاق بوفون، يقرر قادة التيار اليميني المتطرف عدم خلق مشاكل في الملعب على غير العادة. وصلت المشجعين تعليمات صارمة بالتزام الهدوء، وبالفعل انتهت مبارة التوديع من دون مشاكل. تلك الحادثة دفعت مؤلف كتاب «أنا أكره يوفه» وأثناء حفل توقيعه، الى إعلان موقفه مما يجري اليوم داخل الملاعب وكيف يريد المتشددون اليمينيون تمرير سياستهم وأيديولوجيتهم عبرها من دون مراعاة للأضرار التي تلحقها سلوكياتهم بالكرة وبمبادئها النبيلة.