الهندسة الوراثية: أزمة الزراعة والغذاء العالمية

ودحضت هذه الدراسة الادعاء الذي يستخدمه المسؤولون في قطاع التكنولوجيا الحيوية والقائل بأهمية تكنولوجيا الكائنات المعدّلة وراثياً كونها تُفيد الزراعة بشكل كبير وتزيد إنتاجيتها.

هذا وقد اكتشف باحثون في جامعة كانتربيري البريطانية بأن استراتيجية التعديل الوراثي المُستخدمة في إنتاج المحاصيل الزراعية الرئيسية في أميركا الشمالية أدت إلى إضعاف الإنتاجية وزيادة استخدام المبيدات الحشرية مقارنةً بتلك المحاصيل التي لا تعتمد على هذه الاستراتيجية في أوروبا الغربية.

ووفق دراسة أخرى تمت بإشراف البروفيسور «جاك هاينمان» ونُشرت نتائجها في مجلة «الاستدامة الزراعية» الدولية، فقد تبيّن من خلال تحليل معلومات الإنتاجية الزراعية في كل من أميركا الشمالية وأوروبا الغربية خلال الخمسين سنةً الماضية بأن كلاً من البذور غير المعدلة وراثياً وممارسات الإدارة في أوروبا الغربية أثمرت عن زيادة إنتاجية حقول الذرة هناك بشكل أسرع من الطريقة المُعتمدة من الولايات المتحدة في أميركا الشمالية والتي تقوم على تقنية البذور المعدّلة وراثياً. كما أشارت الدراسة إلى أن نمو غلّات نبات (اللفت) - غير المعدّل - في أوروبا شهد تسارعاً أكبر من ذاك الذي حققه مثيله - المعدّل - في أميركا. علاوةً على ذلك، فقد أوضحت الدراسة بأن عملية زراعة المحاصيل الأوروبية تستهلك كمية أقل من مبيدات الأعشاب الكيميائية والمبيدات الحشرية دون الإضرار بالمحاصيل، بينما يتزايد الاعتماد على تلك المبيدات في عملية زراعة المحاصيل الأميركية المعدّلة. وحذّر التقرير الذي أصدره فريق البحث التابع للبروفيسور هاينمان من تعاظم الرغبة في التوجّه نحو الاعتماد على البذور المعدّلة وراثياً.

ويتابع التقرير مؤكداً على أن انخفاض التباين السنوي في الغلّات يدلّ على امتلاك أوروبا لمزيج متميّز من البذور وتكنولوجيا الإدارة الزراعية، كما أنها أكثر ملاءمة لمواجهة التقلّبات المناخية. وهذا الأمر يكتسب أهميةً كبيرة نظراً لأن مضاربات الأسعار الناجمة عن التباينات السنوية قد تقود ملايين الناس إلى براثن الفقر الغذائي. وسلّط التقرير الضوء على مخاوف جدية من تأثيرات الزراعة الحديثة بحد ذاتها من حيث الاتجاه العام نحو استنفاد التنوع الجيني والمخاطر الكارثية المترتبة عليه والتي قد تصيب المحاصيل الغذائية الأساسية.

من مجمل العشرة آلاف صنف من القمح التي كانت تُستخدم في الصين عام 1949، لم يتبق منها في سبعينيات القرن الماضي سوى ألف نوع. أما في الولايات المتحدة الأميركية، فقد فُقد 95% من الملفوف و91% من الذرة و94% من البازلاء و81% من الطماطم التي كانت تُزرع في القرن الماضي !!

ويخلُص هاينمان إلى أننا بحاجة إلى تنويع الممارسات الصناعية في مجالي زراعة وصناعة الطعام الذي لا تدعمه تكنولوجيا التعديل الوراثي، إضافةً إلى ضرورة امتلاكنا لنُظم مفيدة تؤمن وبشكل مرن وصول الإمدادات لإطعام الناس، ولا تقوم على مبدأ الربح التجاري فقط.

رغم هذه الأدلة، ما زالت الحكومات ترضخ

إن إصرار بعض الحكومات على الوقوف إلى جانب قطاع التكنولوجيا الحيوية والسماح بإتاحة الكائنات المعدلة في الأسواق التجارية يثير التساؤل خاصةً مع ازدياد الأدلة التي تشكك في فعالية وسلامة هذا النوع من الكائنات. وفي هذا الإطار، فإن الإدعاءات التي تسوقها اللوبيات والتجمعات العلمية التابعة لقطاع التكنولوجيا الحيوية والتي تنص على أن السبب الكامن وراء تقبّل دول متزايدة لقضية الكائنات المعدلة وراثياً هو سبب يقوم على أساس الأدلة العلمية، هي ادعاءات كاذبة ببساطة.

هذا ويواصل قطاع التكنولوجيا الحيوية الأميركي ذو النفوذ الواسع تنفيذ أجنداته عبر الترويج للفكرة القائلة بأن تقنية الكائنات المعدلة وراثياً هي تقنية رائدة ومتقدمة ومن شأنها إنقاذ البشرية من أخطار المجاعات، وهذا يعدّ تعامياً مقصوداً عن الأدلة التي تشير بوضوح إلى أن معظم حالات الجوع في العالم لا تعدو كونها إحدى نواتج الاستغلال الذي يمارسه القائمون على قطاع الزراعة الكيميائية – الصناعية، بالإضافة لعملية هيكلة إنتاج الأغذية العالمية وتوزيعها تحت شعارات كـ  «التجارة الحرة»و«التكييف الهيكلي» والتي لا يخفى على الكثيرين معانيها الحقيقية المتجسدة في المقام الأول بالتبعية.

إلا أنه ورغم كل ما سبق ذكره، فما زال شعار (إنقاذ البشرية عبر تكنولوجيا التعديل الوراثي) يلقى مجاملةً كبيرة من الهيئات التنظيمية ومن حفنةٍ ممن تصحّ تسميتهم بـ«الدُمى السياسية» المُهَيمَن عليهم من قطاع التكنولوجيا الحيوية.
إن سعي الولايات المتحدة الأميركية اليوم لعقد اتفاقات تجارية ثنائية غير متوازنة مع بلدان أخرى لا يعود لرغبتها في الهيمنة على اقتصادات هذه الدول وربطها باقتصادها في محاولة يائسة لتقوية الأخير المتداعي وإيجاد حل للضعف الذي تعانيه عملتها وحسب، بل للحصول أيضاً على قبول وتبنّي أممي لتقنية الكائنات المعدلة وراثياً.

في السياق ذاته، ومع ورود العديد من التقارير التي تتحدث عن تلوث كميات كبيرة من القمح والأرز والذرة على نطاق عالمي بفعل تكنولوجيا التعديل الوراثي، فإن ملامح عملية تآمريةٍ منظمة باتت تلوح في الأفق، فقد قالت بعض التوقعات أن السيناريو المُحتمل تنفيذه في هذه العملية هو تلويث كميات هائلة من المحاصيل بحيث تهيمن تقنية الكائنات المعدلة جينياً في نهاية المطاف على قطاع الزراعة العالمي بوصفها الحل الأمثل لأزمة التلوّث الناشئة. وفي هذه الحالة، فإن أي نقاش حول مخاطر هذه التقنية لن يتجاوز - بأحسن الأحوال - حدود النقاش الأكاديمي.

أما خلال الوقت الراهن، فستستمر كل من الشركات الزراعية وشركات الأدوية الكبرى بالسيطرة على غذائنا وتحديد الرعاية الصحية الخاصة بنا عبر تقديم «حلولها الإعجازية» - عالية المردود - للمشاكل الصحية والبيئية التي تسببت هي بالدرجة الأولى في خلقها. إن كل ما عرضناه آنفاً لا يعدو كونه أحد المهام الموضوعة على جدول أعمال نخبة الشركات الكبرى الساعية للسيطرة على كل جوانب الوجود الإنساني.