انكفاء «فايسبوك» إلى المربع الأول

انكفاء «فايسبوك» إلى المربع الأول

ليس من السهل وضع نقطة النهاية لما يمكن استخلاصه من التفكير في فضيحة «كامبريدج آناليتكا» التي هزّت «فايسبوك» وشبكات التواصل الرقمي الاجتماعي، بل مجمل العالم الافتراضي. الأرجح أن بعض الحوادث أضخم من أن تستوعب دلالتها في زمن وقوعها، بالأحرى يكون ذلك صعباً. ماذا أفضل من البدء من الإصغاء إلى أصحاب الشأن، وليس على طريقة «أهل مكة أدرى بشعابها»، بل لأن كلامهم يجيء من قلب الحدث ومجرياته وتفاعلاته. إذاً، الأرجح أنه يفيد البدء من تلك الشخصية التي كانت في عين العاصفة: مارك زوكربرغ، رئيس «فايسبوك» ومؤسسه.

وبعد سلسلة محاكمات لم تشهد لها عوالم المعلوماتية والاتصالات والمؤسسات السياسية الدولية المعاصرة، بدا زوكربرغ كبطل جريح يلوذ بمهده الأول، وبيته المكين. ومن قلب «وادي السيليكون»، أعلن في مطالع أيار (مايو) 2018، عن عودة «فايسبوك» إلى المربع الأول في التواصل الاجتماعي، أي التعارف، وهو الذي كان نقطة البداية في ظهور ذلك الموقع أصلاً. وفي مسعىً لصنع فارق بين البداية والحاضر، أعلن زوكربرغ أثناء مؤتمر لكبار تقني المعلوماتية استضافته مدينة «سان خوسيه» بولاية كاليفورنيا، أن الموقع سوف لن يكتفي بمساعدة الأشخاص على التعارف المتبادل، وهي الخدمة التي قدمها دوماً، بل يسعى لأن يضيف الاستدامة إليها. وبديهي أنه أكمل تغطية ذلك الانكفاء الواضح، بوعد طالما كرره منذ فضيحة «كامبرديج آناليتكا» وهو: زيادة العمل على حماية بيانات الجمهور. ليس مبالغة القول إن ذلك الوعد الذي تكرر على لسان صاحبه في مؤتمرات صحافية ومحاكمات في برلمانات أميركا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي، لم يعد يقنع أحداً. وإذ أطاحت الفضيحة بجان كوم، مدير شبكة «واتس آب» التي يملكها «فايسبوك»، لاحظ مختصون أن إحجام كوم عن توضيح سبب استقالته، يوحي بأنها وثيقة الصلة بفضيحة عدم قدرة «فايسبوك» على حماية بيانات ملايين الأفراد من جمهوره الواسع.

يعرف إنك عازب، يعرف زوجتك

لعل شيئاً من ذلك حضر في حديث زوكربرغ في «وادي السيليكون» عن وجود مئتي مليون عازب بين أفراد جمهوره الذي يقدر بقرابة بليون شخص، بل أن زواجاً من أصل ثلاثة زيجات لمستخدميه جاء ثمرة التعارف عبر تلك الشبكة. كيف يعرف «فايسبوك» كل تلك المعلومات الحميمة؟ الأرجح أنه يعرف كثيراً، بل أكثر مما تذهب إليه حتى أشد المخيلات شططاً!

باختصار، ترك «فايــسبوك» الأخبار العامة، مُقِرّاً أنها عمل محترف لا ينهض به سوى الإعلام المؤسّساتي، وعاد «فايسبوك» إلى أوله: فضاء عالمي للاتصال والتعارف.

هل تحمل العودة إلى المربع الأول، مع تطويره، نجاحاً لـ «فايسبوك»؟ الأرجح أن الإجابة الفعلية هي طي المستقبل. وبوضوح، تعني تلك المعطيات أن تلك الشبكة فشلت في شكل ذريع في المسلسل البائس الذي شكّله محاولة جعل الـ «سوشال ميديا» إعلاماً عاماً. الأرجح أن شيئاً من الاستعصاء كان ماثلاً منذ البداية: كيف يمكن الوثوق بأي شيء إذا كان كل شيء متساوياً (أو تقريباً) بين بليوني فرد يشكّلون المجتمع الدولي لشبكات التواصل الاجتماعي، فيكونوا هم المصدر والحكم والمتلقي في وقت واحد؟ الأرجح أيضاً أنّ المتغيّر الرقمي أغرى الجميع بالانخراط في المحاولة، ما يعني أن ذلك الفشل له جانب ناجح آخر: لم يعد الإعلام العام بإمكانه أن يتجاهل الجمهور بمعنى أن يعامله كمجرد متلقي. صار دور التلقي غير المتفاعل مع الإعلام وراء ظهر الجميع، وراء التاريخ، شيء من بقايا الماضي لا يؤمن به إلا من يريد أن يصدقه.

ويصح القول أيضاً إنّ ازدواجية الفشل والنجاح، تعني أيضاً أن الإعلام العام تغيير بلا رجعة. إنه عصر جديد، لكن ذلك لا يعني أن كل شيء ممكن في المطلق، بل يحث على البحث عن الأدوار الجديدة، بكل انتباه وتحوط ويقظة.

ابتدأ الفشل المعلن، من نجاح لا يقل إعلاناً، بل كان باهراً. عندما فرزت أصوات الانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة في 2016، وجاءت لمصلحة المرشّح الشعبوي دونالد ترامب، أعطى الجميع الإعلام التقليدي (الورقي والمرئي- المسموع) قبلة الوداع. وصرخت الأصوات كلّها بأن الصحف والتلفزة ومراكز استطلاع الرأي فشلت كلّها في توقّع فوز ترامب، لأنها لم تضع الـ «سوشال ميديا» بعين الاعتبار.

الوجوه المتبدلة للتواصل

لم يكن ذلك النجاح الذي سرعان ما سيصبح جزءاً من الحسرة على ما فات، حدثاً معزولاً. إذ جاء آنذاك معطوفاً على تنامٍ مذهل لجمهور شبكات التواصل الاجتماعي، وتفاعل يومي لا يتوقف بين شاشات التلفزة وصفحات الجرائد وأروقة السياسة ومسارات الفنون وكل مجريات الحياة اليوميّة من جهة، وشبكات التواصل الاجتماعي من الجهة الثانية.

لنتذكر أيضاً تلك السرعة التي تجاوز فيها أمر شبكات التواصل مرحلة أن تعترف أقنية التلفزة برسائل الجمهور النصيّة، أو بما يرسله أفراد وناشطون من مواد مكتوبة أو بصريّة. في مثل إغماضة عين وانتباهها، استقل ذلك التيار المتدفق من أصابع الجمهور إلى شاشات لا حصر لها (خليوي، «تابلت»، «لاب توب»، كومبيوتر...)، ليصبح له شكله ومذاقه وتأثيراته التي تضرب على مدار اللحظة عبر تدوينات «فايسبوك»، وأشرطة «يوتيوب»، وتغريدات «تويتر»، وصور «آنستغرام» وغيرها. لم يعد مهماً أبداً أن الأصل في «آنستغرام» مثلاً هو تبادل الصور بين الأشخاص. تركت تلك الوظيفة البسيطة لتتصدى لوظيفة غير متوقعة: إذا كانت الصورة عن طفل مهاجر رماه موج ظالم على رمال الموت، يكون ذلك إعلام عام بامتياز.