مشهديّة متغيّرة لسباق الفضاء في القرن 21
التغيّر في مغامرة اكتشاف الفضاء وعلومه وأقماره الاصطناعيّة وأدواته المتنوّعة، بمعنى ترسّخ دور القطاع الخاص فيه، لم يأت بصورة فجائيّة، بل اختمرت عناصره تدريجيّاً، قبل اقتحامه مشهديّة السفر الكوني.
وفي صناعة صواريخ الفضاء، هناك سباق محموم ابتدأ منذ منتصف القرن العشرين. وظل طويلاً حكراً على الدول الكبرى كأميركا، روسيا (والاتحاد السوفياتي السابق)، فرنسا، بريطانيا والاتحاد الأوروبي. وتبدّل المشهد مع دخول الهند السباق لتنافس بصواريخ فضاء رخيصة وفعّالة. (انظر «الحياة» في 15 آب-أغسطس (2015)، ثم تبعتها الصين.
ربما يكون مؤلماً القول إن إسرائيل تتصدر تقنية الأقمار المصغّرة وصولاً إلى ما يشبه الـ «نانو» أقمار اصطناعيّة، وهي مساحة تغيب عنها الدول العربيّة.
وهناك منحى فائق الأهميّة في ذلك التكاثر المتسارع لأساطيل الأقمار الاصطناعيّة، يتمثّل في السيول الهائلة من الصور التي ترسلها على مدار الساعة إلى الأرض. وعلى غرار المعلومات المكتوبة، تحتاج تلك الصور الفضائيّة إلى من يتولى تحليل محتوياتها واستخراج معلومات مفيدة منها. وتعرف الشركات جيّداً أن تلك المهمات ستنتهي إلى أيدي الذكاء الاصطناعي وأدواته ومعادلاته الرياضيّة، لأن إنجاز تلك المهام بأيدي البشر يستلزم جيشاً متفرغاً. وهناك شركات في «وادي السيليكون» شرعت فعليّاً في إعداد برامج مؤتمتة وتطبيقات ذكيّة، للتعامل مع صور الفضاء وبياناتها.
ولا تقتصر فائدة صور الفضاء ومعلوماتها على الشركات والمؤسسات والدول. وفي الوقت الحاضر، تستفيد وكالات الأنباء والصحف الكبرى والمواقع الإخباريّة الشبكية، من صور الأقمار الاصطناعيّة لردف محتواها الإعلامي. وحدث ذلك بكثافة في أوكرانيا وحروب ســورية، ما يعني أن عين الشفافية وصلت من الفضاء، إلى أمكنة كانت تصعب تغطيتها لولاها، أقله ليس على النحو الذي حصلت فيه.
وفي بحر الصين الذي يشهد صراعات ما زالت تحت السيطرة لحد الآن، ساهمت شفافية التصوير الفضائي في حفظ السلام فوق تلك المياه المضطربة سياسيّاً. ومثلاً، أفرد «مركز الدراسات السياسيّة والاستراتيجيّة» في واشنطن، موقعاً مختصاً بالصراعات في بحر الصين. ويحمل الموقع اسماً مختصراً هو «إيه أم تي آي» AMTI. واستطاع رصد نشاطات صينيّة كثيرة، لم تكن حكومة بكين لتقر بها، لولا الصور التي قدّمها «إيه أم تي آي»، ما ساهم في تخفيف التوتر بين الصين ومجموعة الدول المجاورة لها في تلك المياه التي تجذب اهتماماً استراتيجيّاً فائقاً من الولايات المتحدة.
ما لم يحصل في القرن العشرين
الأرجح أنّ دخول الشركات الخاصة إلى صناعة الفضاء المتنوّعة، شكّل المتغيّر الأبرز فيها، وهو ما حمله القرن 21 بوضوح. ابتدأ الأمر في عام 2014، عندما حملت المركبة «سايغنوس» Cygnus، مجموعة من 33 قمراً اصطناعيّاً نانويّاً، إلى «محطة الفضاء الدوليّة» التي وضعتها بعد شهر في مدارات ثابتة حول الكوكب الأزرق. كانت تلك المجموعة طليعة الأقمار من نوع «كيوب سات» التي تتخذ شكل مكعّب ضلعه عشرة سنتيمترات، ولا يزيد وزنه عن 1.3 كيلوغرام. وشهدت السنة ذاتها وصول مئات من تلك الأقمار (بينها 295 قمراً أطلقت في 2017) إلى مدارات خفيضة حول الأرض. وتولّت مهمات متنوّعة كتوجيه السفن في البحار، ومتابعة أحوال الطقس ومحاصيل الزراعة وقطعان الماشية وتلوّث الغلاف الجوي وغيرها.
وقبل عام 2018، جرت العادة على إطلاق أقمار «كيوب سات» على متن صواريخ فضاء تقليديّة ومكلفة، سواء الحكوميّة كصاروخ «أطلس 5» (110 ملايين دولار) أو الخاصة كـ «فالكون 9» القابل لإعادة الاستخدام الذي تصنعه شركة «سبايس إكس» بكلفة تفوق 62 مليون دولار. في ذلك المعنى، يكون صاروخ «إلكترون» الذي صنعته شركة «روكيت لاب» تاريخياً في انخفاض تكلفة صنعه وإطلاقه، بما لا يتجاوز 5 ملايين دولار.
وحاضراً، تملك «روكيت لاب» مجموعة من خمسة صواريخ من نوع «إلكترون»، تزمع إطلاق أحدها في وقت لاحق من العام الحالي. وعندما تصل تلك الشركة إلى طاقتها القصوى في إنتاج الصواريخ، تكون قادرة على إطلاق قرابة 120 صاروخاً سنويّاً، متفوّقة على أعمال مماثلة في الحكومات والشركات على حدّ سواء.