لا وجود للتكنولوجيا المحايدة

لا وجود للتكنولوجيا المحايدة

الأرجح أنّه لم يعد تنطلي على أحد مقولة أنّ الرقمنة ستساعد في حلّ مشكلة الفقر. الأرجح أنّ التجربة معها تحدث بأنّها تساعد في استغلال السوق وتغير هويّة الفرد، وصوغ عقول تتناسب مع الاقتصاد الربحي بغض النظر حتى عن كونه صحيحاً إنسانيّاً. لنفكّر نقديّاً: الأرجح أنّه لا يوجد شيء اسمه تكنولوجيا محايدة! لن تحل مشاكل الجوع والفقر والأوبئة والدول الفاشلة، بمجرد نشر المناطيد التي تحمل أجهزة للوصول لاسلكيّاً إلى إنترنت، وهي مشروع يعمل عليه مارك زوكربرغ: مؤسّس موقع «فايسبوك» ورئيس إدارته أيضاً. الأرجح أنّه يمكن التفكير بأنّ زوكربرغ برع في استغلال فكرة النصوص الرقميّة، بمعنى أنّ «فايسبوك» يعمل على تحويل الأفراد نصوصاً رقميّة فيصبح الإنسان وثيقة إلكترونيّة، كبقية محتويات الشبكات الرقميّة!

على من تقرأ مزامير مناطيدك يا زوكربيرغ؟ أهذا ما ينقصهم فعليّاً في أفريقيا؟ بقليل من التأمل يتضح أنّ ذلك النوع من التفكير يضمر أنّ سكان الدول الفقيرة يملكون كل شيء، ولا ينقصهم إلا «فايسبوك» للترفيه والتواصل في ما بينهم! وعبّر بيل غيتس، المؤسّس الأسطوري لشركة «مايكروسوفت» العملاقة، عن ذلك بالإشارة إلى أنّ الأولويات في الدول الفقيرة هي الطعام والدواء والتعليم، وليس توفير أجهزة الكومبيوتر وطُرُق النفاذ إلى الإنترنت.

وفي سياق متصل، من المستطاع القول أيضاً إنّ الحديث عن وجود فجوة معرفيّة بين من يعرفون الأمور ويحلونها ويفسرونها وبين من يعجزون عن تلك الأمور، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالحال الاقتصاديّة والاجتماعيّة للأفراد في الطرفين. يجدر الانطلاق من تلك النقطة وما يشبهها، بدلاً من العمل على التوجيه عبر خطابات ونصوص تدعو إلى انفتاح غير مضمون النتائج، وذلك هو ما تحاول النهوض به جمعيات شبابيّة متنوّعة في ضواحي المدن الغربيّة الكبرى.

الأمان مادياً واجتماعيّاً قبل الشبكات الافتراضيّة

في سياق مشابه، يمكن القول إنّه من الأفضل العمل على المؤشرات الأساسية التي تحل مشاكل الأفراد الماديّة، ما يمكّن الفرد من الشعور بالأمان الاجتماعي، وتاليّاً تخفيف ميله إلى القيام بأعمال لا تتناسب مع المعايير والتشريعات كافة.

في ظل أوضاع فائقة الاضطراب تزيد في تهميش الأفراد، يتزايد الميل إلى أعمال سلبية كالسرقة والمخدرات، وبالتالي يغدو إمكان استغلاله وتجنيده وتوجيهه نحو التطرّف ممكناً. إذا راقبنا المتطرّفين الذين انخرطوا في أعمال إرهابية في الغرب، نجد أنّ معظمهم جاء من مناطق فقيرة وكانتونات مهمشة من قبل النُـظُم والسلطات المختلفة.

ولذا، يكون التلفزيون وشبكات الـ «سوشال ميديا» («فايسبوك»، «تويتر»، «يوتيوب»...) هي المصدر الأساسي للمعلومات عند الطبقات الفقيرة. في المقابل، يكون الإعلام الورقي بصحفه ومجلاته المختصة والعلمية، موضع اهتمام أصحاب الدخل العالي الذين يتواصلون مع بعضهم عبر شبكات مهنيّة مختصة أيضاً، على غرار «لينكدإن» Linkedin. وبالنسبة إلى الفقراء، يكون الإنترنت وسيلة للتسلية، أمّا للفاعلين في المجتمع فهو وسيلة للتطور والتقدّم في العمل.

والأرجح أنّ ردم الفجوة المعرفيّة لا يحصل بالخطب وحدها. ويتطلب ذلك الأمر قرارات سياسيّة تدعم الاقتصاد وتقلّص الفجوة بين الشعوب عبر توزيع عادل للثروات والتبادل التجاري. ومن الصعب فصل التطرّف الديني عن ذلك والعولمة غير العادلة، والهيمنة الجيوسياسيّة، ومجموعة من المشاكل العالميّة أيضاً.

وعندما نتحدث عن الفجوة المعرفيّة يتبادر إلى الذهن مباشرة مفهوم اقتصاد المعرفة. وكذلك تتحدّد الفجوة بمؤشرات لقياس التفاوت في المعرفة وإنتاجها ونقلها ونشرها والوصول إليها، على غرار معايير البنى التحتيّة (وضمنها الإلكترونيّة) والأدوات والأجهزة المتطوّرة، وإمكانات التواصل عبر الشبكات، وسرعة الحركة الإلكترونيّة عبر الكابلات والشبكات اللاسلكيّة وغيرها.

وكذلك يعتبر «الاستبعاد رقمياً» شكلاً للتفاوت الرقمي. ويتأتى من الهيكلية المسيطرة على شبكة الإنترنت، وطُرُق الاستخدام المفروضة من قِبَل المؤسّسات والدول والشركات. ويضاف إلى ذلك، تأثير التفاوت الاجتماعي المتّصل بأسلوب الحياة والتعليم، بداية من المدرسة ومروراً بالجامعة ووصولاً إلى مراكز البحوث والتطوير وغيرها.