الدماغ الموسيقي
جيني جودج جيني جودج

الدماغ الموسيقي

في البار الذي اعتدت ارتياده أضواء موزعة عشوائياً على السقف المنتفخ، وهو يشبه في أنواره الخضراء حانة رياضة إيرلنديّة، أكثر من كونه باراً للجاز في نيويورك. رغم ذلك، فإنّ بعضاً من أفضل التجارب الموسيقيّة التي خبرتها قد مرّت بي في ذلك القبو المتواضع الذي يبدو بأنّه خارج العالم. عندما كنت أسند ظهري إلى المقعد وأدع إيقاعات الطبول المتناسقة، ونغمات الغيتار البارعة، كنت أشعر بأنّ جسدي هو من «يتلقى» هذه الموسيقى بطريقة لا يمكن لعقلي فعلها. كنت أتفاعل بشكل جسدي مع الفروقات الدقيقة في النسيج الموسيقي قبل أن يتسنى الوقت لوعيي أن يميزها. كنت أتكهن بالحركة التي أداها الموسيقي بعد قيامه بها، لكن في ذات لحظة العزف، فجلّ ما أستطيع هو أن أتفاعل بجسدي معه. إنّ إدراكي لما كنت اسمعه لم يكن إدراكاً واعياً، بل إدراكاً «حشوياً (في الأحشاء) visceral».

لكنّ الحديث عن «إدراك حشوي غير واعي» يبدو غامضاً بشكل كبير من وجهة نظر فلسفية. فمن الشائع في الفلسفة أن نصف العقل كنوع من الآلات التي تُجري مجموعة من العمليات التمثيلية، والتي تتعامل بوكالة مع الشؤون المتنوعة في العالم، ثمّ يتمّ تجميعها فيما بعد بحيث لا يمليها ما يحدث بشكل سريع في البيئة المحيطة. لهذا إن كنت غير قادر على التمثيل الواعي للتفاصيل الدقيقة في العزف المنفرد للغيتار، فإنّك غير قادرة على تمييز الفروق الدقيقة في المعزوفة. ولهذا وتبعاً لذلك فإنّ الادعاء بوجود إدراك «حشوي مجرّد» للموسيقى يعادل قولك بأنّك لا تفهم أيّ شيء منها مطلقاً. أليس ذلك صحيح؟

بطبيعة الحال، يقوم البشر بتوضيح معالم العالم، ويؤدون عمليات عقلية على تلك المعلومات. نحن مدينون بالكثير من نجاحاتنا الأهم كبشر لذلك: فبهذه الطريقة بنينا القنوات المائية والمحركات البخارية وأجهزة الكمبيوتر. لكننا بكثير من الأحيان نسمح لأنفسنا على طول الطريق أن ننتقل من الطريقة المجردة ونتبعد عنها. والانجراف مع الأداء الموسيقي هو فقط واحد من مجموعة من النشاطات التي تعتمد بشكل أقل على المعلومات المحوسبة، وبشكل أكثر على الحس.

  • 2:

في دراسة نشرت عام 2000، طلب عالم النفس برونو ريب من جامعة يال من المتطوعين أن يتحركوا مع الإيقاعات الموسيقيّة، وكان يقوم بتبديل النغمات ضمن تسلسل متساوي الكم بشكل صغير غير ملحوظ. لاحظ برونو بأنّ أنماط الحركة قد تغيرت بشكل مستمر ومتزامن مع كلّ تبديل في النغمات، رغم أنّ المتطوعين لم يكونوا واعين لهذه التبديلات.  

إنّ التتبع دون الواعي للبنية الزمنية «temporal structure»، والتي تحوم حول هوامش الإدراك الواعي، لا تحدث فقط عندما نستمع إلى الموسيقى. إنّها عنصر أساسي في كيفيّة فهمنا للكلام أيضاً. في الواقع، إنّ أحاديثنا اليومية مشبعة بالتناغم الموسيقي الذي يعدّ أمراً حاسماً في تبيين مقاصدنا من الحديث. فنجاح محادثة ما لا ينطوي فقط على معالجة الكلمات الخارجة من فم شخص ما، بوصفها سلسلة من الأصوات المرمزة التي يجب فكها. دعنا ننظر إلى هذا الحديث اليومي:

- صباح الخير، كيف الحال؟

- أنا بأحسن حال. كيف حالك أنت؟

- وضعي ممتاز، ويبدو أنّه يوم جميل.

- نعم بالتأكيد هو يوم جميل.

دعنا الآن نتخيل هذه المحادثة بفوارق زمنية مختلفة، مثل أن يبدأ الثاني الكلام قبل نصف ثانية من انتهاء الأول من الكلام. أو أن يردّ الشخص الثاني بعد عشر ثواني من انتهاء الأول من الكلام. سيكون للحديث وقع مختلف كلياً، فالحديث لا يعتمد على ما نستخدمه من كلمات وحسب، بل أيضاً على التوقيت والإيقاع أيضاً.

  • 3:

في دراسة أجرتها عالمة الاجتماع تانيا ستيفرز وزملاؤها من جامعة كاليفورنيا، وجدت بأنّ المعتاد في معظم الثقافات واللغات حول العالم أن يتجنبوا التداخل وأن يعتمدوا التناوب في المحادثة، مع بعض الاختلافات لدى كلّ ثقافة. فالرد على سؤال محدد في غضون 36 ميلي-ثانية هو الذي يتم الحكم عليه بأنّه «وقت ملائم»، بينما يمكنك أن تستغرق 203 ميلي-ثانية لترد على سؤال في الدنمارك وستبقى ضمن الوقت الملائم. رغم أنّ الصمت «الهائل» بين أهل الشمال الإسكندنافي لا يبدو كبيراً جداً بالنسبة للمراقبين الأنثروبولوجيين من غير الشماليين، فإنّ مثل هذه التعليقات تكشف عن أنّ الاختلافات بين الثقافات بشأن الأمور المعتادة، بارزة جداً. فلنتخيل سائحاً دانماركياً في اليابان.

قد يكون هناك أيضاً نوع مخفي من الحركة. في دراسة أجريت عام 1970، لاحظ عالم النفس آدم كيندون أنّه عندما يوجّه أحد المتكلمين حديثه إلى فرد واحد ضمن مجموعة، يبدأ الشخص المعني بالكلام بالتحرك والإشارة. تكهن كيندون بأنّ السبب في ذلك: «أن المتلقي يميّز نفسه عن بقيّة الحضور، وفي الوقت نفسه يزيد من الارتباط الذي يتمّ إقامته بينه وبين المتكلم». ويميل المتلقي أيضاً إلى التحرّك في الوقت المناسب مع إيقاعات كلام المتحدث (وهي الملاحظة التي أكدتها مجموعة دارسات أكثر حداثة). افترض كيندون بأنّ تنسيق الحركة بين المتكلم والمتلقي قد تمكن المتلقي من تنسيق وقته للدخول في دوره التبادلي في المحادثة، وذلك يشبه تماماً ما يقوم به الموسيقي بشكل مخفي مع متلقيه الذي يتحرك بشكل غير واعٍ قبل الدخول فيها.

وضمن كلّ ما سبق، فربما تكون الموسيقى بمثابة تذكير لفلاسفة العقل بأنّ الخبرة الإدراكية ليست مستنفذة من قبل الرؤية. فهي تحثّ على الاعتراف بأنّ الخبرة الواعية ديناميكية وتشمل الحركة والتغيير. لكنّ الموسيقى أيضاً تدفع الفلاسفة تجاه صياغة مفهوم للعقل يتخطى كونه مجرّد آلة حاسبة متطورة جدّاً. فإن كان البشر يمثلون آلات، فنحن أجساد ذات صدى أيضاً.