أين حدث «الانفصال» بين القردة والإنسان؟
فيليب غولبا فيليب غولبا

أين حدث «الانفصال» بين القردة والإنسان؟

نُشر بحث منذ فترة يستعرض أدلّة عن الفرضية الاستفزازيّة التي تشير إلى أنّ البشر لم يتطوروا في إفريقيا، كما كانت الأدلّة القديمة تشير، بل في جنوب شرقي أوروبا.

تعريب وإعداد: هاجر تمام

ويصف المقال عينتين أحفوريتين: فكّ سفلي من اليونان اكتشف في الأصل عام 1944، وسنّ واحد من بلغاريا اكتشف عام 2009، وكلاهما يعودان إلى صنف «الغرايكوبيثيكوس Graecopithecus». تقول الدراسة بأنّ هذه البقايا تعود إلى 7.175 وإلى 7.24 مليون عام على التوالي، لتمثّل أصنافاً مبكرة جدّاً من الإنسيين (البشر وأسلافهم من غير القردة) الذين وجدوا لفترة وجيزة بعد الانقسام التطوري عن السلف المشترك لكلا القرود الحديثة والبشر. لم يتمّ الإبلاغ من قبل عن إيجاد أيّ أحفوريات قريبة من هذا الانفصال بين الإنس والقردة من قبل.

لقد حددت تقنيات تحديد العمر الجينيّة، والتي تقارن بين درجان الفرق بين جينات الإنس والقردة وتقدّر الوقت الذي استغرقه هذا الاختلاف ليتطوّر، حدوث الانفصال بين أسلاف هاتين السلالتين قرابة 5 إلى 10 مليون عام مضت، وتمّ تضييق الهوّة مؤخراً لتصبح 7 إلى 8 مليون عام مضت. هذا من شأنه أن يضه الغرايكوبيثيكوس في الإطار الزمني المناسب.

يحتوي السجلّ الأحفوري على عينات تمّ العثور عليها في جميع أنحاء إفريقيا وأوراسيا، وتعود إلى العصر الميوسيني «الحديث الوسيط Miocene» (ما بين 23 إلى 5.3 مليون عام مضت)، والتي يمكن أن تمثّل السلف المشترك للقردة والبشر. ومع ذلك، فإنّ البقايا التي تمّ وصفها بأنّها تعود للإنس الأوائل (أوّل سلف للبشر بعد الانفصال) تعود إلى حوالي 5 إلى 6 ملايين عام مضت، مثل «الأرديبيثيكوس Ardipithicus» الذي لم يتمّ إيجاده حتّى الآن إلّا في إفريقيا. كما تمّ في وقت لاحق العثور على أحفوريات أكـثر وفرة تعود لصنف «الأوسترالوبيثيكوس Australopithecus» الذي يضمّ عظام لوسي الشهيرة وهو إنسيّ بلا شك، والذي يقدّر عمره ما بين 4 إلى 2 مليون عام مضت، وهو الذي وجد بشكل حصريّ في إفريقيا.

علاوة على ذلك، فإنّ أقرب أعضاء معروفين من جنسنا: الهومو «Homo»، هم أيضاً من إفريقيا، رغم أنّه يبدو بأنّهم انتشروا بسرعة عبر أوراسيا (مثال: الأحفوريات التي وجدت في دمانيسي في جمهوريّة جورجيا). لذلك فإنّ الغلبة الساحقة من البيانات الموجودة تدعم فرضيّة أنّ الإنس يعود أصلهم إلى إفريقيا، حيث قضوا فيها جلّ تطورهم المبكر أيضاً. يسعى البحث الجديد إلى تحدي هذه الفرضيّة.

هناك مبدأ أساسيّ في العلوم: «الادعاء غير العادي يتطلّب إثباتاً غير عادي». إنّ الأساس للادعاء الحالي هو تميّز العينتين اليونانيّة والبلغاريّة بسمات محددة، ففي حين أنّها تبدو عائدة للقرود بالمعنى الواسع، فإنّ لديها صفات تشير إلى حمية غذائيّة متكيفة مع العيش في المراعي، وهو أمر نموذجي مرتبط بالإنسيين. وذلك خلافاً للقرود البدائيّة المتكيفة مع العيش في الغابات.

تمّ تقديم فئتين من البيانات كدليل على أنّ الغرايكوبيثيكوس هو أحد أسلاف الإنس: وهما مدى سماكة مينا الأسنان وشكل جذر الأسنان.

والبيانات التي قدمها البحث مستمدة من الأشعة المقطعيّة التي أجريت على العينات، حيث تمّ استخدام «التصوّر» ثلاثيّ الأبعاد لهياكلها الداخليّة التي لم تتمّ ملاحظتها فيما سبق.

إنّ لدى الغرايكوبيثيكوس مينا أسنان أكثر سماكة من الذي لدى القرود، ليشبه الموجود لدى الإنس. يمثّل هذا الاختلاف تكيفاً من جانب الإنس من أجل تناول الطعام المتاح في المراعي (مثل البذور)، وهو الأمر الذي يتطلّب الطحن، وبالتالي ينجم عنه تآكلٌ في الأسنان أكبر من ذلك الذي ينجم عن تناول الأطعمة اللينة المتاحة لسكان الغابات. وعليه فإنّ مينا الأسنان الأكثر سماكة سوف تطيل بعمر الأسنان.

إنّ جذر الناب قصير ونحيل، ممّا يشير إلى أنّ الناب نفسه أصغر من الناب الموجود لدى القردة، وهو أشبه بسمات الموجود لدى الإنس. الأنياب الكبيرة تعرقل الحركة الجانبية للفك، وهي الضرورية لطحن الطعام.

ويشير الباحثون أيضاً إلى تشكيل جذور الأضراس الضاحكة. فللبشر ضرس بجذر واحد، بينما للقرود ضرس بثلاثة جذور، والأمر لدى الإنس الأوليين متغيّر. فالغرايكوبيثيكوس يُظهر تقليلاً في عدد الجذور، ممّا يشير إلى الاتجاه نحو تكوّن الإنس، وهو الذي حدث غالباً كنوع من التكيّف مع الأطعمة الأكثر صلابة.

الفرضيّة التي يقترحها هؤلاء الباحثون هي أنّ الانفصال بين أسلاف القردة الحديثة والبشر قد حدث في أوربا وليس في إفريقيا، وذلك بالاستناد إلى عينتين فقط: فكّ وسنّ معزولة، تمّ اكتشافهما في موقعين مختلفين. ولهذا فإنّ حجم العينات صغير للغاية لكي تدعم سماتهما هذا التفسير. ويمكن كذلك أن تكونا نتاج تطوّر متوازي بين مجموعة من الأنواع عوضاً عن كونهما دليلاً على علاقة الإنس اللاحقين بسلف محدد.

علاوة على ذلك، نظراً للندرة الشديدة على أحفوريات الإنس المحتملين من الفترة الممتدة ما بين 5 إلى 10 ملايين عام، ولهذا فإنّ اكتشاف هاتين العينتين في أوروبا لا يزوداننا بأساس يُعتمد عليه للتسليم بفرضيّة المكان الذي تطوّر فيه هذا الحيوانان. بينما الفرضيّة القائلة بأنّ الانفصال بين الإنس والقردة قد حدث في إفريقيا، لا تزال معقولة إذا أخذنا بالاعتبار أنّ بعض الإنس الأوليين ربّما خرجوا من إفريقيا كما فعل أفراد جنس الهومو فيما بعد.

ومع ذلك، فإن الباحثين أجروا تحليلات مكثفة وتفصيليّة تستحقّ بكل تأكيد أن نأخذها بالاعتبار وأن نقوم بالمزيد من التحقيقات، وهي التحقيقات التي يطالب الباحثون أنفسهم بها.

وحتّى لو ظهر في نهاية المطاف أنّ أصل السلالة الإنسيّة يعود إلى أوروبا وليس إلى إفريقيا، أو ربّما إلى أنواع انتشرت في عدّة قارات، يبقى الفهم الأساسي المتعلّق بنمط التطوّر البشري الذي تمّ بناؤه على مدى القرن ونصف الماضيين من دون منازعة أساسيّة، وذلك رغم بعض العناوين المثيرة والمضللة عن عمد التي تنشرها وسائل الإعلام الشائعة.

فالتفسير القائل بأنّ الانفصال التطوري بين البشر والقردة قد دفع إليه انحسار الغابات وتوسّع المراعي أثناء العصر المايوسيني والعصر البليوسيني «الحديث القريب pliocene» الذي تلاه (ما بين 5.3 إلى 2.6 مليون عام مضت) لا يتعارض مع الفرضيّة الجديدة. فالتحليلات تشير إلى البيئة في جنوب شرق أوروبا، حيث عاش الغرايكوبيثيكوس، كانت أعشاب سافانا، مماثلة للأجزاء من إفريقيا حيث وجدت عينات عن الإنس اللاحقين.

تكيّف الإنسيون مع انتشار السافانا، بينما بقي أسلاف القردة الحديثين في الغابات. قاد هذا الافتراق في التكيّف إلى مسارات تطوريّة متباينة على نطاق واسع. إنّ السياق البيئي الأوسع والضغوط الانتقائيّة هي ذاتها بعد إعادة بنائها. وما أثير هو فقط إمكانيّة تغيّر المنطقة الجغرافية.

يجب أن نترقّب الآن إن كان سيتمّ الآن إضافة المزيد من المعلومات من أوراسيا، التي توثّق مسار التطور البشري، إلى السجل الأحفوري الكبير. تخضع البيانات المطلوبة للأبحاث الأحفوريّة إلى تقلبات الحفاظ عليها. إن كانت البيانات المقدمة عن الغرايكوبيثيكوس قادرة على الصمود تحت التمحيص الدقيق، فربّما نحن على موعد مع تكثيف عمليات استكشاف لعينات ذات صلة بالسياق الجيولوجي في أوراسيا.