البيئة تنشد عملاً ثورياً... لا إصلاحاً تكنولوجياً
«دعنا لا نطري على أنفسنا بخصوص انتصاراتنا البشريّة على الطبيعة، فالطبيعة تنتقم منّا مقابل كلّ واحد من هذه الانتصارات. من الحقيقي أنّ كلّ انتصار يحقق في المرحلة الأولى النتائج التي كنّا نتوقّع حدوثها، لكنّ التأثيرات غير المتوقعة والمختلفة التي تحدث في المرحلة التالية أو التي بعدها، عادة ما تلغي نتائج المرحلة الأولى... وعليه يتمّ تذكيرنا عند كلّ خطوة بأننا لا نتحكّم بأيّ معنى بالطبيعة كما يحدث عند غزو شعب أجنبي، وكأننا نقف خارج هذه الطبيعة، بل نحن جسد ودم وأدمغة ننتمي إلى الطبيعة نفسها، ونوجد في قلبها. والحقيقة أنّ كامل سيادتنا على بقيّة الأنواع مصدرها قدرتنا على تعلّم قوانينها وتطبيقها عليها بشكل صحيح».
«دياليكتيك الطبيعة»- فريدريك إنجلز
تعريب وإعداد: عروة درويش
كان نقد ماركس وإنغلز البيئي ذو تأثير على جميع المحللين الاشتراكيين اللاحقين. رغم ذلك، فإنّ الاشتراكيّة الحقيقيّة، تحديداً في الاتحاد السوفييتي بين ثلاثينيات وخمسينيات القرن العشرين، قد استسلمت – لاعتباراتٍ عدة- لذات الرؤية المتطرّفة لغزو الطبيعة التي شكّلت سمة للمجتمعات الرأسماليّة. كان على فكرة السيطرة على الطبيعة أن تنتظر من يتحداها بشكل حاسم إلى النصف الثاني من القرن العشرين، ومن بين ذلك نشر كتاب ريتشل كارسون: «الربيع الصامت» عام 1962. لقد كان نقدها لتدمير الطبيعة الذي أحدثه العلم والتكنولوجيا الحديثين والصناعة الذي لا رادع لها، مرتبطاً بفكرة مبسطة عن التقدم البشري الذي يعتمد على التوسّع الاقتصادي وحده، قد قاد إلى التركيز على الاستدامة وال والتطوّر التعاوني والتواصل الداخلي. لقد تمّ إساءة استعمال العلم بحيث ساعد على انتهاك قوانين الطبيعة نفسها، ممّا يهدد في نهاية المطاف حياة الجنس البشري نفسها. عبر تطوير مفهوم المحيط-الحيوي ونشوء منظور «نظام الأرض»، الذي لعبت فيه الإيكولوجيا السوفييتيّة دوراً محورياً، اتجه العلم بشكل متزايد إلى التكامل مع نظرة دياليكتيكيّة أكثر تكاملاً، نظرة اتخذت أبعاداً جذريّة جديدة تحدّت منطق تبعيّة الأرض والربح البشري.
ليس هناك حركة ثوريّة توجد في العدم، فمن المحتوم أن تواجه مبادئ مضادّة للثورة، مصممة للدفاع عن الوضع القائم. في عصرنا، تمّت مواجهة الماركسيّة الإيكولوجيّة أو الاشتراكيّة-البيئيّة، بالمضادّ لها وهو الحداثة-البيئيّة الرأسماليّة: وهو نموّ فكرة سابقة عن إيديولوجيا الحداثة، التي رفضت منذ بدايتها فكرة وجود حدود طبيعيّة للنمو الاقتصادي. فإن كانت الاشتراكيّة-البيئيّة تصرّ على أنّ الثورة لاستعادة علاقات مستدامة مع الأرض، تتطلّب فتح جبهة هجوميّة على نظام التكامل الرأسمالي، وبأنّه يمكن تحقيق ذلك فقط عبر علاقات اجتماعيّة متساوية أكثر وعبر علاقات تطوير تعاوني أكثر وعياً تجاه الأرض، فإنّ الحداثة-البيئيّة تعد بالعكس من ذلك تماماً. وفقاً لإيديولوجيا الحداثة-البيئيّة فإنّ التغلب على التناقضات البيئيّة ممكن عبر الإصلاحات التكنولوجيّة مع استمرار النموّ المطّرد في الإنتاج، ودون إجراء تغييرات جوهريّة في هيكل اقتصادنا أو مجتمعنا. إنّ النهج الليبرالي السائد إزاء المشاكل الإيكولوجيّة، بما في ذلك تغيّر المناخ، قد منح منذ زمن طويل التراكم الرأسمالي أولويّة على الناس والكوكب. فمن المؤكد أنّ النظام القائم يريد أن يعالج التحديات البيئيّة الهائلة على حسابنا، عبر وسائل مثل التغيير الديمغرافي (كالسيطرة على أعداد السكان) وعبر آليات السوقّ المفتوحة العالميّة. باختصار: إنّ الحلول البيئيّة التي ينتجها التراكم الرأسمالي هو المزيد من التراكم الرأسمالي.
وفي ظلّ هذه الظروف، يثير التشتت والاستغراب أنّ بعض الاشتراكيين الذين يدعون لنفسهم ما ليس لهم، قد ركبوا موجة الحداثة-البيئيّة، متخذين موقفاً مضاداً لمناصري البيئة وللاشتراكيين-البيئيين، بقولهم بأنّ معالجة التغيّر المناخي والمشاكل البيئيّة ككل هي بحاجة إلى تغيير تكنولوجي بسيط، يتمّ بجانب إعادة توزيع تدريجي للثروة. وهم على هذا يقولون بأنّ أزمة «نظام الأرض» لا تتطلّب إجراء تغييرات أساسيّة في العلاقات الاجتماعيّة وفي استهلاك البشر للطبيعة، بل هي عائق معرفي يمكن التغلّب عليه عبر وسائل التكنولوجية فائقة التطوّر.
وإن كان بإمكاننا أن نطلق على هذا الموقف لقب «اشتراكي»، فهو اشتراكيّ بالمعنى الذي يقضي بجمع الدولة بين التخطيط التكنوقراطي وبين تنظيم الأسواق بتشريعات تسمح بتوزيع أكثر عدلاً للثروة. ووفقاً لهذا الرأي، فإنّ الضرورات البيئيّة، من جديد، ما هي إلّا مفاهيم تابعة للتنمية الاقتصاديّة والتكنولوجيّة التي تعامل البيئة بطريقة لا ترحم. في هذا السياق، الطبيعة ليست نظاماً حيّاً لندافع عنها، بل هي عدوّ نقوم بغزوه.
شنّ أحدهم، وهو ليف فيليبس، وهو ينتقد منظمة «السلام الأخضر Greenpeace»، هجوماً على عدّة مفكرين أحرار بالقول: «ليس هناك من صدع استقلابي». يرفض فيليبس فكرة ماركس التي أدّت لتقدّم القيم الإيكولوجيّة، رغم الكمّ الهائل من الدلائل عليها، واتّهم كامل اليسار الإيكولوجي بأنّه «يتاجر بالموت» وبأنّه «كوارثي». قال بأنّهم يعززون «التقشّف البيئي»، وبأنّهم لا يختلفون في ذلك عن النسخة النيوليبراليّة. يرفض فيليب بشكل قاطع أنّ هناك حدود للنمو الاقتصادي، ويؤكّد بأنّه: «يمكن الحصول بشكل فعلي على نموّ لا نهائي في عالم نهائي». ويقول بأنّه وفقاً لبعض التقديرات: «يمكن للكوكب أن يحظى بـ 282 مليار شخص... عبر استخدام كامل الأراضي».
وبالنسبة لفيليبس فإنّ الأكبر أجمل: «يجب أن يدافع الاشتراكيّ عن النمو الاقتصادي والإنتاجيّة والإبداع». وهو يقدّم تعريفاً شاملاً للطبيعة البشريّة: «نحن الطبيعة، وكلّ ما نفعله للطبيعة هو طبيعي... ولهذا فإنّ ناطحات السحاب لا تنفصل عن الطبيعة». يمكن للمرء أن يأخذ ذات المبدأ ويطبقه على الأسلحة النووية على سبيل المثال. ويرى بأنّ التقدّم يعني تجاوز كامل الحدود الطبيعيّة المزعومة: «الطاقة هي الحريّة، والنموّ هو الحريّة». ويرى بأنّ قيمة الأنواع الأخرى تكمن فقط فيما تقدمه من فوائد نفعيّة للمجتمع. وعليه: «يجب أن نولي الاهتمام بمسألة انقراض نوع، ليس بسبب قيمتها الجوهريّة... بل لأنّ فقدان نوع يعني تقليلاً في فاعليّة الخدمات التي تؤديها النُظم الحيّة للبشر».
وفي مقاربة وقحة أخرى، يستعمل بيتر فريس، مؤلّف كتاب المستقبل الرابع الصادر عام 2016، كلمة مالكولم إكس «بأيّ وسيلة ضروريّة» ليشير إلى اقتراحه للحياة التي تلي الرأسماليّة بخصوص التعامل مع الطبيعة. يظهر ولع فريس بفكرة سيادة الإنسان على الطبيعة في فكرة «المستقبل الكبير» الذي يصورها على أنّها سيناريو اشتراكي-بيئي واقعي، وذلك رغم اعتمادها على الخيال العلمي. وتتضمن هذه الفكرة: «تحويل كوكبنا بشكل هائل، وإعادة تأسيسه إلى شيء يمكن أن يستمر بدعمنا نحن وبعض الكائنات الحيّة الأخرى الموجودة. أي أن نصنع طبيعة جديدة بالكامل». ومثل غيره، ليس لدى فريس أيّ نيّة في تقليل تأثيرنا على الطبيعة أو في التعامل معها بحذر. يصرّ فريس على أنّ علينا «أنّ نحبّ وحوشنا الفرانكنشتاينيّة»، وبأنّ علينا أن نتعلّم التعريف عن أنفسنا ضمن العالم الصناعي-التكنولوجي الذي خلقناه، أو الذي نخلقه. مع أسواقه المخطط لها، وعدادات وقوف السيارات الذكيّة وروبوتات النحل والإمكانات التي توفرها الهندسة الجيولوجيّة للكوكب. وهو ينظر إليها جميعها على أنّها متوافقة تماماً مع الأفكار الاشتراكيّة-البيئيّة.
من المهمّ هنا أن ندرك بأنّ الرأسماليّة الاحتكاريّة-الماليّة القائمة اليوم هي نظام قائم على النفايات. يتمّ إهدار القسم الأكبر من الإنتاج على القيم الاستعماليّة السلبيّة، والتي تأتي على أشكال مثل الإنفاق العسكري أو النفقات التسويقيّة. وقد تمّ تضمين اللا فاعليّة، بما في ذلك الإهمال المخطط له «Obsolescence»، في كلّ منتج. يزداد استهلاك «السلع» الفارغة والتدميريّة التي يتمّ عرضها كبديل عن كلّ الأشياء التي يحتاجها ويريدها البشر بحق. وكما صاغ الأمر المفكّر الماركسي بول باران: «الناس الغارقون في ثقافة الرأسماليّة الاحتكاريّة لا يريدون ما يحتاجونه، ولا يحتاجون ما يريدونه». ويتضمن ذلك، بالإضافة إلى الضرورات الماديّة مثل الغذاء والمأوى والملبس والمياه النظيفة والهواء النقي، الحبّ والأسرة والعمل الهادف والتعليم والثقافة والحياة وإمكانيّة التعايش مع البيئة الطبيعيّة والتطير المتساوي والحر لكلّ شخص. يحدّ النظام الرأسمالي بشكل كبير، أو يمنع حتّى، كلّ هذه الأشياء. فهو يقوم بخلق نقص مصطنع في السلع الأساسيّة من أجل توليد رغبة عارمة بالسلع غير الأساسيّة، وكلّ ذلك بهدف تحقيق ربح أقصى واستقطاب الدخل والثروة. تقوم الولايات المتحدة وحدها اليوم بإنفاق أكثر من ترليون دولار سنوياً على العسكرة والتسويق. ويهدف التسويق إلى حثّ الناس على شراء أشياء ما كانوا ليشتروها لولاه.
ورغم تعدد مهووسي التكنولوجيا والتوسّع الصناعي، وتعدد طروحاتهم، الذين يسوقون لها كحلّ لأزمات البيئة، فإنّ هناك طرق أفضل وأسرع لمعالجة المشاكل البيئيّة، من خلال الثورة في العلاقات الاجتماعيّة نفسها. ما من شكّ في أن الأزمة البيئية الحاليّة للكوكب تتطلّب تغيرات وابتكارات تكنولوجية. وتعتبر التحسينات في الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والبدائل الأخرى للوقود الأحفوري، جزءاً هاماً من الموازنة الإيكولوجية. لكنّ أيّ مقاربة اشتراكيّة للمشاكل البيئيّة تركّز فقط على تغيّر المناخ، وتتجاهل أو ترفض فكرة حدود الكوكب الأخرى، وترى بأنّ الحل النقي هو فقط تكنولوجي، فإنّها تمثّل فشلاً حتّى النخاع. إنّها تؤسس رفضاً لاحتضان حريّة جديدة أكثر اتساعاً، يمكنها أن تواجه التحديات التي يفرضها علينا الواقع التاريخي. لا يمكن للإنسانيّة أن تستمرّ بالتطوّر في القرن الحادي والعشرين دون اعتناق المزيد من صيغ الإنتاج والاستهلاك الجمعيّة والمستدامة، بحيث تتماشى مع الفضاءات البيولوجيّة الواقعيّة.