الأدوات الحجريّة وتطوّر إدراك الإنسان الحديث
لقد تمّ الإعلان عن اكتشاف منذ بضعة سنوات لمجموعة من الأدوات الحجريّة في موقع «بيناكل بوينت» في جنوب إفريقيا، ليدفع بالزمن إلى الوراء، الأدلّة على ظهور القدرات الفكريّة للإنسان الحديث، إلى حوالي 71 ألف عام ماضية. ساعد هذا الاكتشاف على رأب ما كان يُنظر إليه على أنّه فجوة زمنيّة محيرة تمتدّ أكثر من مائة ألف عام، بين أقدم البقايا الأحفوريّة للإنسان الحديث وبين أوّل دلائل في السجل الآثاري على أنّ هؤلاء البشر قد حازوا القدرة على التفكير المجرّد والرمزي بشكل كامل. وهذا التفكير هو أساس التكنولوجيا البشريّة الحديثة والتنظيم الاجتماعي والثقافة في بداية العصر الحجري القديم الأعلى (Upper Paleolithic).
ترجمة وإعداد: هاجر تمام
لقد أعدّ التقرير الذي أعلن عن الاكتشاف فريق من العلماء من الولايات المتحدة واليونان وأستراليا وجنوب إفريقيا. لقد سمّى التقرير الأدوات المكتشفة، أو بشكل أدق مكوناتها الحجريّة، باسم «ميكروليثس Microliths»، وتعني حرفياً الحجارة الصغيرة. لقد تمّ تصنيعها عبر تقنيّة تُعرف باسم إنتاج النصل، وهي أكثر كفاءة وتتطلّب درجة مهارة إدراكيّة أكبر بكثير من تلك الوسائل المستخدمة من قبل البشر الأقدم، من أمثال النيادرتال. استُخدمت النصال لتجميع أدوات مركبة أكثر تنوعاً بكثير من أنواع الأدوات الأقدم، وتمّ تصميمها من أجل تأدية وظائف أكثر تخصصاً، وهذا قد فتح الإمكانيّة أمام تكوين مجموعة أدوات متعددة ذات مهام محددة.
يرجّح أنّ هذه السمة الأخيرة على وجه الخصوص هي من منح الإنسان الحديث القدرة على تكوين أدوات تتكيّف بسهولة مع مصادر الغذاء والبيئات الجديدة، ممّا سهّل الهجرة السريعة من إفريقيا قبل مائة ألف عام. كانت هذه التكنولوجيا الجديدة أعلى بكثير من تلك التي استخدمها البشر الأقدم الذين عاشوا في أوراسيا، وقد منحت الوافدين الجدد ميزة تكيفيّة ملحوظة.
وجهات النظر القديمة عن التطوّر البشري والتكنولوجيا والدماغ:
يشير السجل الأحفوري المعروف إلى أنّ البشر الحديثين تشريحياً، الهومو سابيان Homo sapiens (أي البشر مثلنا)، قد تطوروا عن أنواع أقدم من جنس الهومو قبل حوالي مائتي ألف عام في إفريقيا. ومع ذلك فإنّ السجلّ الآثاري لعقود، لم يظهر أدلّة تشير إلى القدرة العقليّة الحديثة الكليّة حتّى بداية العصر الحجري القديم الأعلى، أي بعد قرابة 150 ألف عام على وجوده. والواقع أنّ هناك مواقع ظهرت فيها بقايا بشر حديثين، بدوا مرتبطين بأدوات حجريّة مساوية من حيث التكنولوجيا للأدوات التي استخدمها الإنسان قبل الحديث مثل النياندرتال. وقد أعطت هذه الفجوة الزمنيّة تأخراً بين ظهور مؤشرات الحداثة الماديّة وظهور الحداثة الفكريّة.
إنّ عينات حجم الدماغ وشكله العام لدى الهومو سابيان، والتي يمكن تحديدها من حجم وشكل الجماجم الأحفوريّة، لا يمكن تفريقها عن حجم وشكل الإنسان الذي يعيش حالياً. لكنّ القدرات الذهنية لا أحفوريات لها، ويمكن استنتاجها فقط من المنتجات الماديّة للسلوك البشري: التحف الأثريّة.
وقد قاد الغياب الواضح للمؤشرات الأثريّة، على إنتاج أدوات متطوّرة وأعمال فنيّة وغيرها من مميزات الإنسان الحديث، إلى التخمين بأنّ شيئاً ما كان مفقوداً في القدرات العقليّة للإنسان الحديث في فترته الأولى. وهو أمر لا يمكن الكشف عنه في المستحاثات، فهو قد يكون من البنية الداخليّة للدماغ. كانت إحدى الاحتمالات تقوم على أنّه لم يحقق في تلك المرحلة كامل القدرات اللغويّة. ومهما كان ذلك العامل المفقود، فقد ساد الاعتقاد بأنّه قد أعاق القفزة المعرفيّة التي، بمجرّد وقوعها: «فتحت الباب لانطلاقة الفيض» الثقافي الذي ميّز العصر الحجري القديم الأعلى، والذي يُفترض بأنّه خلق الأسس لمغادرة الإنسان الحديث إفريقيا والانتشار في العالم.
بأيّ حال، فإنّ هناك قولاً مأثوراً قديماً في العلم ينصّ على أنّ: «عدم وجود الدليل لا يعني بالضرورة دليلاً على عدم الوجود». إنّ التقلبات في ظروف حفظ المستحاثات يعني بأنّ كلا السجلات الآثاريّة العامّة والخاصّة بالعصر الحجري هي شظويّة بشكل كبير. والعوامل التي تحفظ الأدلّة في أحد مجالات الدراسة لا تعني بالضرورة بأنّها متسقة مع عوامل مجالات دراسة أخرى سواء من حيث الزمن أو المكان، وهو ما يؤدي إلى تناقضات واضحة في البيانات المتاحة. فالنقص في الدليل الآثاري على التطوّر الثقافي لدى البشر الحديثين في وقت سابق، يمكن أن يُعزّى إلى الفشل في حفظها أو إلى أنّ الآثاريين لم يبحثوا في المكان الصحيح بكلّ بساطة. إنّ إفريقيا هي من بين أقلّ الأماكن التي جرت فيها عمليات استكشافيّة في العالم.
تثوير فهمنا للأصول الثقافيّة البشريّة:
إنّ مكتشفات موقع بيناكل بوينت ليست إلّا جزءاً من مجموعة مكتشفات حديثة تمّت في العقدين الأخيرين، أخذت على عاتقها دفع الأدلّة على التفكير المعقّد إلى الوراء زمنيّاً. ففي مواقع أخرى منتشرة عبر جنوب وشمال قارّة إفريقيا، وجدت الاكتشافات حبّات صدف وأشياء منقوشة، بالإضافة إلى القطع الحجريّة الصغيرة. يُعتقد بأنّ حبّات الصدف والأشياء المنقوشة الأخرى تمثّل سلوكاً رمزياً، لا وجود له، أو أنّه وجد بشكل ضئيل جدّاً، لدى الأنواع البشريّة الأقدم. تشير الأصداف بشكل واضح إلى بعض المعاني فيما يتعلّق بالهويّة الشخصيّة، وقد تمثّل الأشياء المنقوشة صوراً مجردة أو أرقاماً حتّى. جميع هذه القطع الأثريّة آتية من أزمان تقلّ عن مائة ألف عام. هناك موقع واحد في جنوب إفريقيا: «مصبّ نهر الفحم»، يحوي على أدوات نصال ومتشظيات تعود للإنسان الحديث ويقارب عمرها تسعين ألف عام. تحوي بعض المواقع الإفريقيّة قطع حجريّة صغيرة عمرها أكبر، لكنّها ليست مؤرخة بشكل مضمون.
على مدى الفترة الطويلة لتصنيع الأدوات الحجريّة، والتي تبدأ منذ أدوات «أولدوان» القديمة التي تعود إلى 2.6 مليون عام، فإنّ هناك الكثير من التطوير التقني قد حدث، ولكنّ الجوهر العقلي قد بقي نفسه. أمّا تصنيع الميكروليث فهو مختلف بشكل جذري. فالميكروليث مصنوع ممّا يدعى النصال. والنصال نفسها يتمّ إنتاجها عبر «التقليص reduction»، باستخدام تقنيّة تحتاج تخطيطاً وسيطرة دقيقين جدّاً. فالنصال هي رقاقات طويلة وحادّة يتمّ ضربها بشيء صلب أكثر من مرّة بشكل موحّد من حيث عدد المرّات والشدّة. يمكننا القول بأنّ هذا هو الشكل الأوّل من الإنتاج الضخم. وهو أكثر فاعليّة بكثير من الوسائل السابقة المستخدمة في تصنيع الأدوات الحجريّة، من حيث إمكانيّة الحصول على قدر أكبر من «الحواف الحادّة» التي يمكن الحصول عليها من عدد أكبر من المواد الخام.
إنّ الميزة الحقيقيّة للشفرات هي إمكانيّة تجميعها مع مواد أخرى (مثال: عظام أو قرن وعل أو خشب) في عمليّة إضافيّة لتكوين أدوات جديدة ذات أحجام وأشكال يستحيل الحصول عليها من الحجر وحده، حتّى عند ربطه بمقبض. يمكن قطع النصال إلى شرائح أصغر حتّى، وتعديلها بشكل إضافيّ ثمّ ربطها بمقابض معدّة مسبقاً من أجل تشكيل حواف حادّة تصلح للعديد من الاستخدامات. ومن أمثلتها المنجل الحجري، أو الرماح، أو الرماح المركبة التي تحولت إلى الرماح التي ترمى عن بعد، وهي التي تطورت من الرمح المحمول.
إنّ عملية التصنيع معقدة، وتنطوي على عدد من الخطوات، ولم تحدث بالضرورة بتتابع فوري. ويمكن تخيّل التسلسل بأنّه حدث كما يلي: 1 – جمع السيلكريت (مواد خام حجريّة) على شكل رقع من موارد متوزعة 2 – جمع ونقل الخشب الملائم للوقد من أجل معالجة بعض الأجزاء بالحرارة 3 – معالجة السيلكريت بحرارة مسيطرة عليها من أجل تحسين خصائص قشرته 4 – تحضير نواة الشفرة القاسية من السيلكريت 5 – إنتاج الشفرات بشكل مسيطر عليه 6 – إعادة تشكيل النصال 7 – الارتقاء بإنتاج الخشب أو العظام 8 – إلصاق النصال المقساة من أجل تشكيل أداة صالحة للاستخدام.
إنّ درجة المهارة والمعرفة اللازمين من أجل تنفيذ سلسلة التصنيع هذه، تعني بالضرورة استخدام اللغة لإرشاد الأجيال المتعاقبة. صرّحت الباحثة في ثقافة الإنسان الحديث المبكر، سالي ماكبيرتي بأنّ: «القدرة على السيطرة والتلاعب بعمليات وصور الأشياء في الذاكرة، وتنفيذ الإجراءات الموجهة نحو الهدف خلال زمن محدد وفي مكان محدد، هو ما يُدعى بالوظيفة التنفيذيّة، وهو عنصر أساسيّ في العقل الحديث». الأدلّة في موقع بيناكل بوينت تشير إلى أنّ تصنيع الميكروليثيك قد استخدمت على مدى أكثر من عشرة آلاف عام، ما يعني بأنّها كانت عنصراً رئيساً في ثقافة تكيّف مستخدميها، وليست مجرّد تجربة وجيزة.
وتشير الأدلّة الجينيّة إلى أنّ تطوّر الإنسان الحديث قد حدث خلال «الاضمحلال الجيني Genetic bottleneck» عندما قلّ عدد سكان الأسلاف بشكل كبير جدّاً، وذلك ربّما يعود إلى أزمة مناخيّة شديدة. إن صحّ هذا، فمن المرجح أن يكون هؤلاء السكان قد قاربوا على الانقراض. من المرجّح أنّ هذا التغيّر الجيني قد حدث في ظلّ تلك الظروف الحرجة التي سمحت لأسلافنا بتصوّر العالم بطريقة جديدة منحتهم القدرة على تطوير تقنيات جديدة كانت العامل الرئيس في نجاتهم. وهذا يعني أيضاً بأنّه يصعب إيجاد المواقع الأثريّة التي يعود تاريخها إلى تلك الفترة الحرجة.