هل الآليات الرقميّة «لسان» آخر؟
ما هو الدور العميق، بالأحرى الأدوار التغييريّة التي تنهض بها الترجمة، في عالم قرّبته شبكات الاتّصالات إلى حدّ مذهل، بل جعلت كل فرد متّصلاً بالعالم أفراداً وجموعاً ومؤسّسات ودولاً وغيرها؟ ألا تشي تلك الصورة بأن الترجمة باتت ضرورة ملحة وعامة، باعتبارها جسراً أوليّاً لا غنى عنه في الاتّصال والتواصل بين الشعوب والثقافات والمجتمعات والكيانات الفكريّة وغيرها؟
ضمن محاولات لا حصر لها للإجابة عن الأسئلة السابقة وما يشبهها، تظهر مقاربة أكاديميّة مهمّة في كتاب «التواصل عبر الترجمة في عالم رقمي: مواجهة تحدّيات العولمة والتوطّن محليّاً» Translation- Mediated Communication in a Digital World: Facing the Challenges of Globalization & Localization. وألّف الكتاب البريطانيان ميناكو أوهاغن وديفيد أشوورث، وكلاهما مختص في شؤون اللغة والثقافة. وبرعاية «المركز القومي المصري للترجمة»، تمت ترجمت الكتاب على يد الزميل محمد عبد العاطي مسعود.
ويركز الكتاب على تطوّر نوع جديد يستند إلى التقنيّات الرقميّة، كأساس في التواصل بين اللغات المتنوّعة. ويسّمى ذلك النوع «الترجمة من بُعد» Tele Translation، ويقدّم الكتاب تفاصيله عبر دراسة سياقات مستحدثة في أنماط التواصل العالميّة، مبيّناً المتطلبات المميّزة للترجمة والتحرير الفوريّين من بُعد، إضافة إلى أنواع الأدوات والتدريب المتّصلين بهما.
وفي الكتاب، يحلّل المؤلفان العلاقة بين الطرفين الرئيسيّين المشاركَين في عملية التواصل عبر الترجمة تحريريّاً وشفويّاً، استناداً إلى رؤية مفادها أن الترجمة باستخدام الإنترنت هي شكل آخر للتواصل عبر العوالم الافتراضيّة.
مواجهة تحدّي الزمن
يتوزّع الكتاب على أربعة أجزاء رئيسية. ويقدم الجزء الأول الصورة العامة لموضوع الكتاب، مسلّطاً الضوء على التغيّرات الرئيسية التي أحدثتها شبكة الإنترنت في الترجمتين التحريرية والشفوية. ويسلط الضوء على القضايا الناشئة عن أثر السياق الرقمي في عمل الترجمة. ويركز أيضاً على عدد من السمات المحدّدة في استعمال الـ «ويب» أداة لترجمة النصوص والأصوات. ويشمل ذلك مفاهيم أساسيّة كالثقافة الرقميّة، إضافة إلى كفاءة الترجمة والمترجم.
ويشرح الجزء الثاني التقنيّات الحديثة في الترجمة الرقميّة، إضافة إلى تبيان الآثار المتولّدة من عمليتي العولمة والتوطين، وهما متناقضتان ومتكاملتان في الوقت ذاته. ويبحث في التقنيّات المتعلقة بمعالجة اللغة الطبيعيّة عبر استخدام التقنيّات الرقميّة على الإنترنت. ويلفت إلى أثر الثقافة على التكييف مع مسارات التقنية. إذ لا يبدو استخدام اليابانيّين البريد الإلكتروني متطابقاً مع استعمال الأميركيّين تلك التقنية. وكذلك لا ينظر المتحدثون باللغة الصينيّة دائماً إلى الدردشة النصيّة على أنها مفيدة أو وسيلة تحرّرهم من القيود الاجتماعيّة.
وتشير تلك الجوانب إلى التعقيدات التي تواجه العولمة التي لا يمكنها السير قدماً من دون مراعاة فعليّة لثقافة المتلقي، ما يعني ضرورة تعاملها مع مروحة واسعة من الثقافات، بل مروراً بالمستويات الفرديّة أيضاً.
ويشرح المؤلفان شكلاً هجيناً محتملاً من الدعم اللغوي يسميانه «الترجمة التحريريّة الشفهيّة». ويلمسان أيضاً تأثير عملية العولمة في الترجمة في شكل جوهري، خصوصاً الحاجة إلى توطينها تماشياً مع مفهوم معاصر عن تطويع رسائل التواصل ثقافيّاً.
وينتقل الجزء الثالث إلى صميم ممارسة الترجمة من بُعد، شارحاً تقنيّات باتت في طريقها إلى النضج، تتعلّق بآليات الترجمة الشفهية من بُعد، مشيراً إلى أنّ شركات الخليوي تنتظرها على أحر من الجمر. ثم ينتقل النقاش في الكتاب إلى مشاكل تقنية تفصيليّة تتعلق بالترجمة الشفهيّة من بُعد، على غرار عرض النطاق في الاتّصال مع الإنترنت، وأساليب إدارة الاتّصال بين المترجم الشفهي الرقمي من جهة، وأطراف الاتّصال من الجهة الثانية.
وكذلك يناقش الكتاب دور شبكة الإنترنت بوصفها منصّة للتطورات المهنيّة المتصلة بالمترجمين تحريريّاً وشفاهيّاً عبر تلك الشبكة، وما يتطلبه ذلك من مهارات ومعارف. ويشمل ذلك النقاش، دور الترجمة عبر الـ «ويب»، وآفاقها المستقبلية، خصوصاً في الترجمة الشفهيّة.
وينتقل الجزء الرابع إلى المستقبل، مقدّماً رؤية حول دور الترجمة في مجتمعات المعلومات المستقبليّة التي ستكون مستندة إلى قاعدة عريضة من شبكات الاتّصالات الرقميّة. ويشير أيضاً إلى تقدّم تقنيّات الترجمة، نحو أفق بعيد تظهر فيه آلات ذكيّة ربما تكون قادرة على كشف الدوافع البشرية وراء النص والحوار الشفوي وما إليهما.