الصراع الاقتصادي الألماني الأمريكي... هل انتفضت أوروبا؟
تذكرنا سياسة واشنطن الخارجية الحالية قليلاً، بالحقبة الذهبية للباب العالي العثماني، من حيث أنّ زيارة زعيم أيّة دولة تابعة لا تعني أكثر من فرصة لإظهار الولاء العلني للسلطان والرغبة بخدمته، أو في السياق المعاصر: إطاعة السيّد في البيت الأبيض. وكما كان على الزائر أن يبتسم ويظهر سعادته بالفرصة الممنوحة له لتقبيل يد السلطان، فإنّها في اللغة المعاصرة تعني التعبير عن التأثر بقيادة الولايات المتحدة الملهمة، التي تستقي زخمها من حيوية الرئيس الأمريكي.
لا يمكن للمؤسسة الحاكمة في واشنطن أن تبدو بغير هذه الصورة، ولكن وفي ظلّ عصر تدهور الهيمنة الأمريكية الحالي، لن يكون الزائرون المثاليون للبيت الأبيض أكثر من رؤساء أوكرانيا أو إحدى دول البلطيق. كما أنّ هنالك زوّاراً آخرين لواشنطن، ومن بينهم زعماء في الاتحاد الأوروبي وحتّى رؤساء أفارقة، يتصرفون كمغرورين وقحين، ويقومون، من وجهة نظر التقاليد الإمبراطورية التي لا تمنحهم أيّ وزن، بعرض التملّق دون حماسة أو غزارة، والأهم: أنّهم لا يتسابقون على تلبية رغبات قادة الإمبراطورية.
إما الطاعة أو الإدانة!
يؤكد اللقاء الذي عُقد بين المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس دونالد ترامب في 27 نيسان 2018 بأنّ واشنطن لا تحتاج إلى حلفاء يملكون مصالحهم القومية الخاصة، بل على جميع الحلفاء أن يسيروا وفق مبدأ هيمنة الولايات المتحدة أحادية القطب. وأيّ أحد غير مرتاح لهذا الأمر فعليه أن يهبط إلى دائرة الذين يتم تصنيفهم بأنّهم غير مرغوب بهم في البيت الأبيض. وقد أوضحت «الواشنطن- بوست» صراحةً: أنّ ألمانيا قد هبطت إلى المعسكر الثاني عندما كتبت: «أنجيلا ميركل تصبح الحلقة الأوربية الأضعف».
تشير مقالة «الواشنطن- بوست» إلى مدى الفروق الجديّة بين الفصائل الحاكمة في البلدين. فقد تم وسم كامل النخبة السياسية الألمانية، وكذلك كامل الشعب الألماني، بالكثير من الاستخفاف: «الانهزامية الألمانية متأصلة بشكل عميق. تفتقد الطبقة السياسية الألمانية للتفكير الاستراتيجي وتكره المخاطرة، ولا تملك إلّا القليل من الشجاعة. إنّها تتخفى وراء ماضيها الشائن لتبرير نزعتها للسلم، مع أنّ الأمر يتعلق بمسائل الدفاع والأمن الخطرة». أثار عدم مشاركة الألمان في الهجوم الصاروخي الأمريكي- البريطاني- الفرنسي على سورية الحنق، وتمّ وصفها بالعجز هي ومعداتها. ثم مضت المقالة بالقول: إنّ السياسة الألمانية في سورية قد دعمت الجانب الخاطئ عبر منح اللجوء لقرابة المليون لاجئ الذين فروا من ديارهم، وهذا هو ما سمح «للنظام السوري» بمتابعة القتال.
ويتضح من هذا السياق بشكل جليّ: أنّ القضايا المحددة التي جلبتها ميركل إلى الطاولة في واشنطن كانت مجرّد شواغل ثانوية لشريكها الأمريكي. كان على مستشارة ألمانيا أن تقطع مسافة عشرة آلاف كيلومتر كي يتم منحها مقابلة مدتها 20 دقيقة، حيث كان من الواضح أنّ ترامب لم يغيّر موقفه السلبي تجاه المسائل شديدة الأهمية بالنسبة للألمان، وهي: الرسوم الجمركية على الصلب والألمنيوم (والتي وضعت بنسب 25% و10%) أو «السيل الشمالي 2»، أو تخفيف العقوبات على روسيا من أجل الشركات الألمانية الكبرى، أو الاتفاق النووي مع إيران.
التجربة الألمانية المريرة مع الأمريكان
كان أمام ميركل خيار صعب الاتخاذ: فإمّا على برلين أن تعلن الحرب على جميع أعداء واشنطن، أو سيتم نبذها مرّة واحدة وإلى الأبد لكونها «الحلقة الأضعف»، مع كلّ ما يتلو ذلك من عواقب. لكن الخيار الأول سيعني كارثة بالنسبة للمصالح القومية الألمانية، فليست التجارة الدولية وحدها هي من ستتلقى الضربة، بل أيضاً مشاريع الطاقة، والرأي العام الألماني. كان عليها أن تفهم أنّ قيامها بغير ذلك سوف يجعل ألمانيا لا تلبي معايير البيت الأبيض للعب دور الشريك الأساسي في أوروبا.
لم تُبدِ أنجيلا ميركل الكثير من الانبهار. أدركت القيود الموضوعة عليها. لا تزال ذكرى الهزيمة الأكبر في القرن العشرين تلوح في الأفق. ليس القلق الشديد من الدعوات للانضمام إلى مغامرات الناتو العسكرية بجديد، فلا أحد هناك ينسى الثمانينيات عندما عاشت ألمانيا حالة التوتر والخوف من إحراق صواريخ SS-20 السوفييتية للبلاد بومضة عين. ليس لدى الألمان أيّة رغبة في الخنوع لخطّة رئيس أمريكي آخر، وهو الأمر الذي قد ينتهي بالعودة بهم لتلك الأيام.
ويبدو، أنّ هذا هو السبب الذي دفع برئيسة الحكومة الألمانية لتحصين نفسها بدرع: «لا تمنح أيّ شيء لترامب» أثناء المفاوضات في واشنطن.
شروط واشنطن
إن نظرت لهذه الأشياء بشكل عملي، فقد احتاج ترامب لبضعة تنازلات من ميركل. أولاً: احتاج موافقة المستشارة الألمانية على الأقل لإعادة العقوبات والأمل بالموافقة على الحرب ضدّ إيران، فبالنسبة للإدارة الأمريكية الحالية، التحلل من «الصفقة مع إيران» وحرب تالية مع طهران هو أكبر بند في أجندة سياساتها الخارجية. ثانياً: كان على ترامب أن «يعصر» ميركل من أجل قضيّة زيادة المساهمة المالية الألمانية لميزانية الناتو. وفقاً للبيت الأبيض، يجب على ألمانيا أن تسهم بنسبة 2% من ناتجها المحلي الإجمالي السنوي في ميزانية التحالف (أو بكلمات أخرى، لتدفع مقابل طلبات إنتاج مجمع الصناعات العسكري المتراكمة). وكما عبّر ترامب عن الأمر بشكل شعري: «الناتو رائع، لكنّه يساعد أوروبا أكثر ممّا يساعدنا، فلماذا ندفع الغالبية العظمى من نفقاته؟». ثالثاً: كان على الولايات المتحدة أن تضمن أنّ القادة الأوربيين، وخاصة ميركل، سوف يذعنون لحروب رسوم الجمارك بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي، وأن تضمن في أفضل الحالات كذلك مساعدة الاتحاد الأوربي لها في حربها التجارية ضدّ الصين التي أطلقها ترامب مؤخراً.
التوازنات الجديدة
يمكننا أن ندرك من نتائج اللقاء: أنّ واشنطن قد تلقت رفضاً مهذباً على النقاط الثلاث بأكملها. لم يكن بالإمكان تخيّل حدوث مثل هذا السيناريو منذ خمسة أعوام، لكنّ ما حدث هو أمر موضوعي بحق، في ظلّ الواقع الدولي الراهن، وهذا الواقع هو أمر لا يستطيع لا المحللون السياسيون في الولايات المتحدة، ولا قسم كبير من النخب الإعلامية في أوروبا (والذين لا يزالون يرون الاتحاد الأوربي بوصفه بورتوريكو كبيرة) أن يعتادوا عليه. لقد تحوّل الخطاب الرسمي في واشنطن فيما يخصّ الاتحاد الأوربي بشكل جذري، وتبعاً لترامب نفسه، فإنّ الاتحاد الأوربي «قد تشكّل لاستغلال الولايات المتحدة»، وذلك على الرغم من إظهار الرواية الغربية لتشكيل الاتحاد الأوربي فيما سبق بأنّه «مُثل الحرية» و «حماية للديمقراطية» ونوعاً ما «قدر وقيم أوربية عامّة».
وفرنسا أيضاً
يمكن اليوم رؤية جوهر العلاقة العابرة- للأطلسي في الاتصالات بين واشنطن وباريس. ورغم الآمال الكبيرة التي تعقدها الولايات المتحدة على فرنسا لإظهار ولائها للتحالف، فإنّ قادتها كانوا مصممين بقدر قادة الألمان على الدفاع عن مصالحهم الخاصة. تبدو هذه العقلية واضحة في قول الرئيس ماكرون الذي اقتبسته عنه صحيفة بلومبيرغ: «لن نتحدث في أيّ شيء طالما هنالك سلاحٌ مصوب إلى رؤوسنا». يصرّ القادة الأوربيون على أنّ النقاشات يجب أن تكون على مبدأ التساوي، وهو الأمر الذي لا يمكن لواشنطن القيام به من حيث المبدأ. حتّى أصغر رسميي أوروبا مستوى يستخدمون سلطتهم الاقتصادية لتهديد الولايات المتحدة. قال وزير الاقتصاد الفرنسي برونو لامير: «هنالك شيء واحد تعلمته من الأسبوع الذي قضيته مع الرئيس ماكرون في الولايات المتحدة: الأمريكيون لا يحترمون إلّا استعراض القوّة». ولا يجب الإشارة إلى أنّ المرء لا يتحدث إلى طاغوت عالمي حقيقي بهذه التعابير.
وبغض النظر عن حصيلة كلّ النزاعات الدبلوماسية والاقتصادية بين طرفي الأطلسي، فمن المناسب القول: أنّ أوروبا قد تحررت من قبضة واشنطن، وأنّ العلاقات المستقبلية بين الولايات المتحدة وأوروبا ستصبح متوترة بشكل متزايد. علينا أن نرى عمّا قريب إن كانت أوروبا ستستغل الفرصة الحالية لاستعادة حريتها الاقتصادية والسياسية التي فقدتها في مرحلة ما.
الصين وألمانيا
أعداء واشنطن الاقتصاديين
تتصاعد حرارة الخلاف مؤخراً فيما يخص العلاقة بين الولايات المتحدة وألمانيا. فرغم محاولات واشنطن الاعتيادية لجمع حلفائها تحت مظلّة الناتو، وعلى مواجهة «العدو المشترك» الذي تمثله روسيا، فإنّ الاقتصاد الأوروبي الأكبر يزعج بشكل متزايد شريكه عبر المحيط الأطلسي نتيجة تقوية مكانته الخاصة، والسبب الرئيس لهذا الأمر هو اقتصادي محض بطبيعته. فبعد كلّ شيء، لقد بقيت ألمانيا من الناحية السياسية محميّة أمريكية، بل وحتّى دولة محتلة من الولايات المتحدة بشكل رسمي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. لكن بالمعنى الاقتصادي صعدت صورة مناقضة، فالولايات المتحدة الآن هي بشكل عملي مستعمرة ألمانية.
يقارب العجز التجاري الأمريكي مع ألمانيا بشكل هائل السبعين مليار دولار سنوياً، ليحتل المرتبة الشرفية الثانية فقط خلف العلاقة التجارية غير المتوازنة الأمريكية- الصينية. لا يحبّ الرئيس ترامب هذا الأمر ويريد تغييره. لكن وعلى الرغم من رغبته المعلنة في حماية الأمريكيين والعمّال الأمريكيين من خلال ما يفعله، فهنالك ما يدعو إلى الشك بأنّ أهدافه الحقيقية، هي: الإضرار بمنافسي أمريكا، وتقويض مواقع برلين.
وفقاً لرئيس معهد «سياسات الاقتصاد الكلي»: غوستان هورن، فإنّ أسلوب ترامب قد يدفع ألمانيا إلى ركود اقتصادي. وهنالك أرضية صلبة جداً تدفع للقلق: فرغم تقدير خطر حدوث ركود في آذار 2018 بنسبة 6,8%، ارتفعت هذه النسبة إلى 32,4% بعد أقل من شهر . لقد تضاعفت الاحتمالية قرابة الخمس مرات. إنّ للتصريحات الحمائية التي يطلقها الرئيس الأمريكي، تأثير عميق على الأسواق المالية والاقتصاد في جميع أنحاء ألمانيا.
حرب تجارية ومالية
لقد مضى على فترة النمو الاقتصادي المتسارع الألمانية الآن خمسة أعوام. هذه مدّة جيدة وفقاً لمعايير اليوم، وخاصة إذا ما أخذنا بالاعتبار المشاكل الاقتصادية في بقية بلدان أوروبا. إنّ البطالة منخفضة في ألمانيا اليوم لدرجة تضطرّ الشركات غالباً لإلغاء الطلبيات بسبب نقص العمالة. كما أنّ عوائد الضرائب التي سجّلت في الآونة الأخيرة والتي جلبتها حكومة ميركل تقفز إلى الأذهان. غير أنّ قوّة الاقتصاد الألماني الموجهة نحو التصدير قد تضعف أيضاً. ترامب «الحمائي» مستاء جداً من الدول التي لديها فائض تجاري مع الولايات المتحدة، وهو يدّعي بأنّ برلين تمصّ نخاع الاقتصادي الأمريكي، وقد أشار لهذا الأمر في انتقاداته في أكثر من مناسبة ليجمعها مع الصين واليابان.
في كانون الثاني 2017، غرّم قسم الخدمات المالية في ولاية نيويورك المصرف الألماني «دويتشه بنك» بمبلغ 425 مليون دولار لخرقه قوانين مكافحة تبييض الأموال الأمريكي، على خلفية فضيحة إخراج ما يقرب من 10 مليارات دولار من روسيا بين 2011 و2015. كما قامت ولاية نيويورك بتقديم الوعظ للبنك الألماني: «في شبكة التمويل المترابطة اليوم، على مؤسسات التمويل العالمية، أن تكون يقظة أثناء الحرب على غسيل الأموال، وغيرها من النشاطات التي تسهم في الجرائم الإلكترونية والإرهاب الدولي». يمكننا الفهم من هذا التصريح، أنّ البنك كان يعمل مع عملاء هم هدفٌ للعقوبات التي تمّ فرضها بذريعة الأحداث في أوكرانيا.
وفي الوقت ذاته تقريباً وجّه ترامب ضربة قويّة لصناعة السيارات الألمانية. ففي مقابلة مع صحيفة «بيلد» الألمانية، وحين كان يزعم بأنّه يدافع عن مصالح صانعي السيارات الأمريكيين، انتقد بقسوة شركات «بي.ام.في» و«فولكسفاغن» و«ديملر» لمحاولتها تصدير قدر ما يمكنها من السيارات إلى الولايات المتحدة بدلاً من صنعها على الأرض الأمريكية، وهدد بفرض نسبة 35% كضرائب جمركية على صانعي السيارات هؤلاء.
كانت ردّة الفعل سريعة وكانت «فولكسفاغن» هي أوّل من استجاب بتأكيدها الاتفاق مع وزارة العدل الأمريكية على دفع غرامة قدرها 4,3 مليار دولار بسبب فضيحة انبعاثات الديزل في سياراتها، وكذلك على «إجراءات إضافية لتقوية نظام المراقبة أكثر».
ألمانيا «كبش الفداء»؟
يمكننا فهم الكثير من اختيار ترامب لصانعي السيارات الألمان كمثال يستعرض به سياسته الحمائية. لم تكن فقط ألمانيا بذاتها هي التي اختارها لتكون «كبش الفداء»، بل أيضاً التشديد على قوتها الاقتصادية: صناعة السيارات. بتنا نرى في الواقع الآن كيف أنّ برلين لم تعد هي الشريك المفضل لأمريكا في أوروبا، وكيف أصبحت أكبر خصم اقتصادي لها، وقد يكون إعلان الحرب عليها حصيلة محتومة.
علاوة على ذلك، يجدر بنا أن نلاحظ كيف اتهم مستشار ترامب بيتر نافارو (في كانون الثاني 2017 مع الفايننشال تايمز) ألمانيا بالتلاعب بخفض قيمة اليورو، ممّا يجعل برلين تعزز صادراتها و«تستغل» الولايات المتحدة وشركائها الأوربيين. وأشار أنّه فيما بين 2015 و2016 انخفضت قيمة اليورو بنسبة 25% وسط إصدارات العملات التي سجلها البنك المركزي الأوربي. لكن ما نسي مستشار ترامب أن يذكره، هو: حقيقة أنّ برلين قد حاكت ما قامت به الولايات المتحدة نفسها، وكذلك بكين. قام نافارو كذلك بوصف برلين بأنّها العائق الأكبر أمام اتفاقية التجارة والاستثمار عبر الأطلسي.
تصدعات أوروبية
حتّى أنّ الرجل الذي كان يوماً ما مرشحاً لترامب ليشغل منصب سفير الولايات المتحدة في الاتحاد الأوربي: تيد مالوخ، قد ذهب أبعد من ذلك بالادعاء في كانون الثاني 2017 بأنّ منطقة اليورو على وشك الموت، وبأنّ اليورو: «قد ينهار خلال الـ 18 شهراً القادمة». لقد كان في حقيقة الأمر يعبر عن رأي دونالد ترامب نفسه، وهو الذي توقّع في مقابلته مع صحيفة «بيلد» بأنّ المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لن تبقى، وأنّ العديد من دول الاتحاد الأوربي سوف تحذو عمّا قريب حذو بريطانيا بالخروج منه.
وعليه، فإنّ الهجوم الأمريكي على ألمانيا ليس بالشيء الجديد، لكنّه كان محصوراً في السابق بكلمات ترامب وتغريداته الشهيرة. ورغم أنّ هذه الكلمات لها عواقب خطيرة، فإنّ تأثيرها غير قابل للمقارنة بالأفعال الملموسة. أمّا الآن فقد تحركت واشنطن من الكلمات إلى الأفعال، ويبدو أنّها تستهدف الأعمال كما هو واضح من الرسوم الجمركية في آذار على البضائع الصينية.
شرح غوستاف هورن: «لا نعلم بعد إن كانت الرسوم الجمركية التأديبية التي فرضتها الولايات المتحدة قد تنسحب في نهاية المطاف على البضائع الأوربية، لكنّ المخاوف تتصاعد».
يجب أن نلاحظ، أنّه وبسبب الانخفاض في نموّ اقتصاد القارة، فستحدّ الدول الأوربية من ردود أفعالها السلبية تجاه تحركات واشنطن. يوافق الكثير من القادة الأوربيين ترامب على توصيفه لتعزيز الاقتصاد الألماني، ويشعر الكثيرون منهم بقوّة، بأنّ ألمانيا قد فعلت ذلك على حساب بقيّة أوروبا. وبكل تأكيد انتفع الاقتصاد الألماني بشدّة من إنشاء منطقة اليورو، والتي تستخدم برلين داخلها العملة ذاتها التي تستخدمها البلدان الأخرى المتخلفة عن ألمانيا في التنمية الاقتصادية.
ليس دونالد ترامب هو أول رئيس أمريكي يعرب عن قلقه إزاء الفائض التجاري والربح المفرط الألماني، أو إزاء الإجراءات التقشفية التي فرضتها برلين على كامل القارة. فقد تناوش باراك أوباما مع أنجيلا ميركل أيضاً، وأصرّ على أنّ ألمانيا تحفز طلبها الاستهلاكي الخاص وتزيد الواردات من الدول الأوربية الأخرى، وذلك بدلاً من مجرّد تعزيز الصناعات التصديرية الخاصة، وذلك أثناء تجاهلها جيرانها.
بالنظر إلى البيئة الحالية واستناداً إلى نتائج الدراسة، يحثّ المحللون من مركز سياسات الاقتصاد الكلي المستشارة الألمانية على زيادة الإنفاق من أجل تعزيز الاقتصاد الألماني المحلي، وذلك عوضاً عن الاستمرار في بناء القطاعات التصديرية غير المستدامة. قال غوستاف هورن: «سيكون هنالك تداعيان إيجابيان إن قمنا بتعزيز الطلب المحلي في ألمانيا وأوروبا. أولاً: سيتفاعل النمو بدرجة أقل مع الاضطرابات في أسواق التصدير العالمية. ثانياً: سيقود هذا إلى تخفيض الفائض التجاري الألماني، وهو الأمر الذي سيوقف بثّ الرياح في أشرعة ترامب».
روسيا...الملاذ الألماني
بالإضافة للتطلعات الحمائية للرئيس الأمريكي، فقد كشفت واشنطن عن التزامها الخطير بتشديد سياسات عقوباتها المناهضة لروسيا. وقد يصل الضرر على الصناعات الألمانية إلى مئات ملايين اليورو. ومن جديد سيتلقى صانعا السيارات «فولكسفاغن» و«ديملر»، بالإضافة لـ«سيمنز»، الضربة الأقوى. لكن من الواضح بأنّ لدى أنجيلا ميركل خططها الخاصة للهروب من هذا الضغط. فالحكومة الألمانية تدرك التزاماتها أمام مجتمع الأعمال لديها، وهو الذي كان يحثّ بشكل دائم على الاستثمار في روسيا، ولهذا السبب ستحاول برلين الدفاع عن مصالح شركاتها المحلية. لكن وإلى حين الوصول إلى اتفاق بنّاء في واشنطن، فحتّى الشركات الصغيرة والمتوسطة في ألمانيا لن تستطيع الشعور بالأمان.