حروب الرأسمالية وعولمة الفقر... مصلحة الشعوب ومواجهة المنظومة
في أعقاب أحداث 11 أيلول 2001 المأساوية، وفي أكبر استعراض للقدرة العسكرية منذ الحرب العالمية الثانية، شرعت الولايات المتحدة في مغامرة عسكرية تهدد مستقبل البشرية. تمّ الترويج للحرب على أنّها تعهّد بصناعة السلام. وكان التبرير الذي أُعطي للحروب التي قادتها الولايات المتحدة هو «المسؤولية عن حماية»، وكذلك عن غرس «الديمقراطية» الغربية في أنحاء العالم كافة.
الحرب العالمية تدعم الأجندة النيوليبرالية، فالحرب والعولمة مرتبطتان بطريقة متشابكة. نحن نتعامل هنا مع مشروع إمبريالي واسع النطاق، يخدم مصالح النخب المالية والاقتصادية، ومن ضمنها: مصالح «وول ستريت»، ومجمّع الصناعات العسكرية، وشركات النفط الكبرى، وتكتلات التقنيات الحيوية، وهوامير صناعة الأدوية، واقتصاد المخدرات العالمي، وتكتلات الإعلام، وعمالقة الاتصالات والمعلومات. وكما هو مثبت وموثّق بإسهاب، فإنّ «القاعدة» والمجموعات التي تشبهها مثل: «داعش»، هم صنيعة مخابرات الولايات المتحدة، وليست الحرب العالمية على الإرهاب إلّا أمراً مزيفاً.
العقيدة النووية الوقائية
حصل في هذه الأثناء تحوّل رئيس في «العقيدة النووية» الأمريكية، مع تبنيها للعقيدة الوقائية، وتحديداً الشروع في الحرب كأداة «للدفاع عن النفس». وتنسحب إيديولوجيا الحرب الوقائية على استخدام الأسلحة النووية على أسس وقائية. ففي عام 2002، وضعت الإدارة الأمريكية موضع التنفيذ، مفهوم الحرب النووية الاستباقية، أي استخدام الأسلحة النووية ضدّ أعداء أمريكا بوصفها إحدى طرق الدفاع عن النفس.
وتقوم إدارة ترامب الآن بتهديد العالم علانية بحرب نووية. لا أعلم كيف يمكن لأيّ عاقل أن يصوغ اقتراحاً شيطانياً كالذي أعلنته الإدارة الأمريكية، عنّ أنّ استخدام السلاح النووي ضدّ إيران وكوريا الشمالية سوف «يجعل العالم مكاناً أكثر أمناً».
أين هي حركة مناهضة الحرب؟
منذ غزو العراق واحتلاله، وحركة مناهضة الحرب في عداد الأموات. يسود الآن ناشطون ممولون من «وول ستريت»، وهم بالكاد يركزّون على المشاكل البيئية والتغيّر المناخي والتمييز العرقي والحقوق المدنية. لا تشكّل الحروب الدائمة وجرائم الحرب التي ارتكبتها قوات الولايات المتحدة والناتو، تحت مسمى مكافحة الإرهاب جزءاً من جدول أعمال المعارضة «العامّة المنظمة». فشعار الحركة الآن: «نحن ضدّ الحرب، لكننا ندعم الحرب ضدّ الإرهاب».
وعليه فإنّ البروباغندا منتشرة لإلباس وجه الناتو والولايات المتحدة الوحشي، قناعاً إنسانياً يغطّي على خروقات حقوق الإنسان. بينما يتمّ بشكل دوري توجيه الاتهامات للدول التي تكون هدفاً لعدوان الولايات المتحدة بأنّها تقتل شعبها.
يقلب الإعلام المضلل الحقائق. فكوريا الشمالية لا تشكل تهديداً على الأمن العالمي، فبلجيكا، مع قاذفاتها النووية التكتيكية العشرين من طراز B61 الموضوعة في الخدمة، تملك ترسانة أكبر من تلك التي تملكها كوريا الشمالية، والتي لا تملك أكثر من 4 قنابل نووية.
وتستهدف هذه القاذفات النووية من طراز B61، والتي تمتلكها بعض الدول الأوربية، مثل: بلجيكا وهولندا وألمانيا وإيطاليا، ولا يتطرق أحدٌ لكونها تشكل تهديداً للأمن العالمي، روسيا والشرق الأوسط.
ويتجاهل الإعلام السائد عمداً أن ينبّه الرأي العام إلى أنّ حرباً نووية تقودها الولايات المتحدة ضدّ كوريا الشمالية أو إيران، قد تتطوّر إلى حربٍ عالميّة ثالثة، والتي ستكون بكلمات آينشتاين: «الأخيرة» مؤدية لدمار الجنس البشري. أو كما قال كاسترو عام 2010: «الأضرار الجانبية لحرب نووية ستكون حياة كامل البشرية».
إنّ حركة مناهضة الحرب ميتة، ولا يحتلّ احتمال قيام حرب نووية عناوين صحفها ونشراتها. وعندما أصبحت الولايات المتحدة مخوّلة بإطلاق حرب نووية «كأداة لإحلال السلام»، قبلتها وتغاضت عنها المؤسسات الدولية، ذات السلطات الرفيعة ومن ضمنها الأمم المتحدة.
من الاستعمار إلى ما بعد الاستعمار
إنّ تاريخ ما بعد الاستعمار، هو استمرار للتاريخ الاستعماري الذي أسس الأجندة الإمبريالية الأمريكية المعاصرة، وذلك بشكل كبير بسبب حلولها مكان القوى الاستعماريّة السابقة، مثل: إسبانيا وفرنسا واليابان وهولندا...الخ. يشتمل مشروع الهيمنة الأمريكي بشكل كبير على تبديل العالم من بلدان ذات سيادة إلى أقاليم مفتوحة، تسيطر عليها المصالح المالية والاقتصادية. وقد استُخدمت في سبيل تحقيق ذلك الأدوات العسكرية والاستخباراتية والاقتصادية.
فالمنشآت والقواعد العسكرية البالغ عددها أكثر من 700 حول العالم، تعمل جميعها وفقاً لهيكل قيادة واحد، يخدم أجندة الهيمنة الاقتصادية العالمية ويدعمها. علاوة على ذلك، يتم دعم هذا الانتشار العسكري عبر السياسات الاقتصادية التي تفرض التقشف على كافّة مجالات الإنفاق المدني، بهدف زيادة التمويل اللازم للإنفاق على لوازم الترسانة الأمريكية العسكرية والاقتصاد الحربي.
لطالما كانت التدخلات العسكرية، وتغيير الأنظمة، وعمليات الانقلاب العسكرية الممولة والمنظمة من المخابرات المركزية، وكذلك «الثورات الملونة»، دعائم لنشر وتطبيق أجندة السياسات النيوليبرالية، التي تمّ فرضها على الدول النامية المثقلة بالديون، حول العالم.
عولمة الفقر
كانت عولمة الفقر في الحقبة ما بعد الاستعمارية هي نتيجة مباشرة لتنفيذ «الإصلاحات» الاقتصادية القاتلة، تحت إشراف صندوق النقد والبنك الدوليين. لعبت مؤسسات «بريتون وودز» دور الأدوات التي تستخدمها «وول ستريت» والشركات.
كان للمسار الزمني الذي طُبقت فيها هذه «الإصلاحات»، والتي قادت إلى إعادة هيكلة اقتصادية عالمية، أهميّة شديدة. فقد بدأت في الثمانينيات هجمة ما يدعى «ببرامج إعادة الهيكلة» تحت قيادة صندوق النقد والبنك الدوليين. استخدمت «سياسة الشروط» الموجهة بشدّة ضدّ بلدان العالم الثالث المثقلة بالديون، كوسيلة للتدخل، حيث فرضت المؤسسات التمويلية المرتكزة في واشنطن، حزمة من السياسات الاقتصادية المميتة على المقترضين، مثل: التقشف والخصخصة والتخلّص من البرامج الاجتماعية والإصلاحات التجارية وضغط الأجور الحقيقية ...الخ.
ومن الجدير بالملاحظة، أنّ حزماً موازية من الإصلاحات الاقتصادية النيوليبرالية، والتي تضمنت بشكل أساس عمليات الخصخصة وتفكيك دولة الرفاه، قد وضعت موضع التنفيذ في الثمانينيات، بدءاً من الولايات المتحدة وبريطانيا، بما أطلق عليه اصطلاحاً تسمية: حقبة ريغان- تاتشر.
«إصلاحات» ما بعد الحرب الباردة
بدأت موجة ثانية من «إعادة الهيكلة الاقتصادية» في نهاية الحرب الباردة، وذلك بتقديم حزمة إصلاحات اقتصادية قاسية على بلدان أوروبا الشرقيّة، والبلطيق، والبلقان، وجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق.
وفي الوقت ذاته، في أوروبا الغربية، تمّ توقيع اتفاقيّة «ماستريخت»، والتي دخلت حيّز التنفيذ عام 1993، وفرضت على الدول الأعضاء في الاتحاد الأوربي ما بات يشار إليه باسم: «معايير ماستريخت» أو معايير الاتحاد، وهي ما قادت في نهاية المطاف إلى تشكيل منطقة اليورو التي تبنّت وطبقّت أجندة السياسات النيوليبرالية بشكل كبير على الدول الأعضاء في الاتحاد. وانتقصت «ماستريخت» كذلك من السيادة الفردية للدول الأعضاء فيها.
إنّ اتفاقيّة «ماستريخت» في الحقيقة هي برنامج «تعديل هيكلي» يرتدي قناعاً. وقد ساهمت بشكل أساسيّ في وقت لاحق في شلّ سياسات النقد الوطنية، حيث منعت استخدام عمليات الدين العام الداخلي كأداة لتنمية الاقتصاد الوطني. فمتطلبات التقشّف في الموازنة التي فُرضت باسم «معايير ماستريخت»، حدّت من قدرة الدول الأعضاء في الاتحاد الأوربي على تمويل برامجها الاجتماعية، ممّا أدّى إلى الزوال التدريجي لدولة «الرفاه» التي وُجدت ما بعد الحرب العالمية الثانية. لقد استولى البنك المركزي الأوربي ودائنو القطّاع الخاص على الدين العام. أمّا الآثار طويلة الأجل فكانت تصاعد الديون الخارجية، وكذلك شروط الإقراض ووسائل ردّ الدين من عائدات برامج الخصخصة الشديدة.
ويجب أن نذكر، أنّ هذا الدور من إعادة الهيكلة قد تزامن أيضاً مع تدشين منظمة التجارة العالمية عام 1995. واتفاقيّة «التجارة الحرّة» في شمالي أميركا «نافتا»، والتي ساعدت في التحوّل الدراماتيكي في معالم الاقتصاد الأمريكي الشمالي، ليقود إلى زوال اقتصادات المستوى المحلي والإقليمي في كامل أمريكا الشمالية.
وتزامن هذا بدوره مع تمديد وتوسيع الناتو في التسعينيات، متضمناً الإنفاق «الدفاعيّ» الهائل، الذي لم تمسه إجراءات التقشف الحكومي النيوليبرالية. بل ما حدث كان العكس في واقع الأمر، فالنيوليبرالية غذّت مجمع الصناعات العسكرية.
والذي كان على المحك، هو: عملية تحويل ما يدعى بالبلدان المتقدمة إلى «بلدان عالم ثالث»، وذلك بانتشار البطالة في عدّة بلدان أوربية، من بينها: إسبانيا والبرتغال واليونان، والتي كانت اقتصاداتها محلاً لنمط الإصلاحات ذاتها المعتمدة من قبل صندوق النقد الدولي في بلدان العالم الثالث. وقد عنى ذلك أنّ الفقر المعولم قد وسّع قبضته، فلم يقتصر على بلدان الاتحاد السوفييتي السابق والبلقان فحسب، بل امتدّ أيضاً ليشمل دول المداخيل المرتفعة في أوربا الغربية.
ولا ننسى أنّ أعوام التسعينيات قد جلبت التدخلات «الإنسانيّة» للناتو في الحرب ضدّ يوغسلافيا، والذي أعلن عن عولمة الناتو كذلك، وإيصاله إلى ما أبعد من الحدود الأطلسيّة الشماليّة، التي قامت أثناء الحرب الباردة.
وتركت الأزمة الآسيوية عامي 1997- 1998 بدورها علامة هامّة على تطوّر إطار العمل النيوليبرالي، مشيرة إلى القدرة على الزعزعة الحرفيّة للاقتصادات الوطنية للدول، وذلك عبر التلاعب بالمضاربات وبتبادل النقد الأجنبي وبسوق البضائع. ولهذا فإنّ لدى المضاربين المؤسساتيين الآن القدرة على رفع أثمان السلع الغذائية بشكل اصطناعي، أو تخفيض أثمان النفط الخام بالطريقة ذاتها.
اقتصاد العمالة زهيدة الثمن
قامت الأجندة النيوليبرالية التي اتسمت بفرضها ما يسمى «دواءً اقتصاديّاً» قويّاً، متمثلاً بإجراءات التقشف وتجميد الأجور والخصخصة وإلغاء البرامج الاجتماعية، على مدى ثلاثين عاماً، بدعم النقل المستمر للتصنيع إلى جنان العمالة زهيدة الثمن في البلدان النامية. وهذا بدوره ساهم في إفقار كلٍ من الدول النامية والمتقدمة.
«الفقر جيّد للأعمال»، فهو يعزّز موارد سلعة العمالة زهيدة الثمن حول العالم من أجل الصناعة، وكذلك من أجل قطاعات في اقتصاد الخدمات.
لكنّ عمليّة «إعادة الهيكلة الاقتصادية» العالمية- وهي التي وصلت إلى مستوى جديد لها- تعتمد بشكل كلّي على تقليص أجور وتكاليف العمالة حول العالم، وهي تقوم في الوقت ذاته بتخفيض القدرة الشرائية لملايين البشر. هذا التقليص للطلب الاستهلاكي يحفّز في نهاية المطاف الركود وارتفاع معدلات البطالة.
اقتصاد الأجور الزهيدة هذا، مدعوم بشكل كبير بمستويات البطالة العالية، وهي التي نتجت في البلدان النامية عن تدمير الإنتاج المحلي والإقليمي، ناهيك عن ذكر زعزعة استقرار الاقتصاد الريفي. ويساهم «جيش العاطلين عن العمل الاحتياطي» هذا، كما سماهم ماركس، بالإبقاء على الأجور في حدّها الأدنى.
الصين الآن، هي أهمّ حوض للعمالة الصناعية زهيدة الثمن، مع وجود 275 مليون عامل غير مستقر- وذلك وفقاً للمصادر الرسمية في الصين -وبشكل يثير السخرية، فإنّ مستعمرات الغرب السابقة، وهي البلدان ذاتها التي كانت ضحيّة لعدوان الولايات المتحدة العسكري وجرائم حربها، مثل: فيتنام وكمبوديا وإندونيسيا، قد تحوّلت إلى جنان للعمالة زهيدة الثمن. ساهمت الظروف التي سادت عقب حرب فيتنام بشكل كبير في فرض الأجندة النيوليبرالية، بدءاً من التسعينيات.
كما أنّه يتمّ استيراد العمالة الزهيدة الثمن من البلدان الفقيرة، مثل: الهند وبنغلاديش والفلبين وإندونيسيا ...الخ، ليتمّ استخدامها في أعمال البناء وفي اقتصاد الخدمات. إنّ مستويات البطالة العالية تخدم في الحفاظ على الأجور منخفضة بشكل هائل.
الطلب الإجمالي
أدّت عمليات «إعادة الهيكلة الاقتصادية» العالمية إلى زيادة كبيرة في الفقر والبطالة. فاقتصاد العمالة الزهيدة يقود بشكل حتمي إلى انهيار القدرة الشرائية، وهو بدوره يخدم زيادة مستويات البطالة.
العمالة الزهيدة، وضغط الشراء، هما عمادا النيوليبرالية، وتمّ الانتقال من السياسات الكينزية الموجهة نحو الطلب في السبعينيات، إلى أجندة الاقتصاد الصغير النيوليبرالي في الثمانينات. إنّ أجندة السياسة الاقتصادية النيوليبرالية المطبّقة في جميع أنحاء العالم، تدعم اقتصاد العمالة العالميّة زهيدة الثمن. ومع انهيار السياسات الموجهة نحو الطلب، ظهرت النيوليبرالية كنموذج اقتصادي مهيمن.
ولم يعد الانهيار العام في مستويات المعيشة الذي أدّت إليه أجندة الاقتصاد الصغير محدوداً، بما يسمّى البلدان النامية. فالبطالة الهائلة تنتشر في الولايات المتحدة، وفي عدّة بلدان في الاتحاد الأوربي، مثل: إسبانيا والبرتغال واليونان ...الخ. وبالتزامن مع انتشار هذه البطالة، تمّ ضغط إيرادات الطبقة الوسطى، وخصخصة البرامج الاجتماعية، وبتر شبكات الأمان الاجتماعي، ومن بينها: ضمان البطالة وبرامج الرفاه الاجتماعي.
قصور الاستهلاك
أدّى انهيار القدرة الشرائية إلى ركود في صناعة البضائع الاستهلاكية. ونتحدث هنا عن الإنتاج السلعي الموجّه نحو ضرورات الحياة الأساسية، مثل: الغذاء والإسكان والخدمات الاجتماعية...الخ، بالنسبة لغالبية سكان الكوكب. فبات هنالك انقسام جديد بين أولئك «الذين يعملون» في اقتصادات العمالة الزهيدة، وأولئك «الذين يستهلكونها».
وتكمن اللاعدالة الجوهرية في النظام الاقتصادي العالمي هذا، في أنّ «الذين يعملون» غير قادرين على تحمّل كلفة شراء ما ينتجونه. بكلمات أخرى، لا تقوم النيوليبرالية بتعزيز نمط استهلاك جماعي، بل على العكس: فإنّ تنمية اللامساواة الاجتماعية الشديدة، سواء داخل أو بين الدول، تقود في النهاية إلى ركود إنتاج البضائع والخدمات الضرورية، ومن بينها: الغذاء والإسكان والصحّة العامّة والتعليم...الخ.
ويقود نقص القدرة الشرائية لدى «الذين ينتجون»- ناهيك عن ذكر العاطلين عن العمل - إلى انهيار الطلب الإجمالي. من ناحية ثانية، يزداد الطلب على «الاستهلاك المترف» من قبل الطبقات العليا في المجتمع.
السلاح والسلع الفارهة،
قطاعان ديناميكيان
في حين أنّ الفقر العالمي يسهم في تقليص الاستهلاك لدى القسم الأكبر من سكان العالم، فإنّ القوّة الدافعة للنمو الاقتصادي، هي: أسواق الطبقات ذات المداخيل العالية، البضائع ذات الأسماء التجارية الفارهة والسياحة والمتع والسيارات المترفة والكهربائيات والعيادات والمدارس الخاصة ...الخ..
وبهذا يصبح القطاعان الديناميكيان في الاقتصاد العالمي هما: الإنتاج لصالح طبقات المجتمع العليا. وإنتاج واستهلاك الأسلحة، وتحديداً عبر مجمع الصناعات العسكرية.
يؤدي انخفاض الطلب على البضائع والخدمات الضرورية، بسبب الفقر ونقص القدرة الشرائية، إلى تفريغ مجالات تنمية البنية التحتية الاجتماعية والاستثمار فيها، مثل: المدارس والمشافي والنقل العام والصحة العامة...الخ، وهي اللازمة لدعم مستويات عيش غالبية سكان العالم.
يخلق اقتصاد العمالة الزهيدة، بالتعاون مع إعادة هيكلة الجهاز التمويلي العالمي، تركيزاً غير مسبوق للدخل والثروة، وهي التي تصاحبها ديناميكية نمو اقتصاد البضائع الفارهة. وحتّى يستمرّ الإنفاق على القطّاع الديناميكي الآخر: الأسلحة والحرب، يتمّ استثناؤه من إجراءات التقشف النيوليبرالية، وفرضها على الصحة والتعليم والبنية التحتية...الخ، من أجل تيسير تمويل اقتصاد الحرب. وهذه الأموال التي تذهب إلى «شركات الدفاع» تسمح لهم بإنشاء مجموعات ضغط سياسيّة هائلة القوّة.
كيف نعكس تيار الحرب والعولمة
لقد تمّت سرقة حركات الشعب. والحركة المناهضة للحرب ميتة. ومنظمات المجتمع المدني التي تحاول الظهور دوماً بمظهر «تقدمي»، ما هي إلّا صنائع للنظام العالمي، تمولها الشركات الخيرية المرتبطة بـ«وول ستريت»، كي تعطي الانطباع بأنّها هي من تمثّل «المعارضة»، وكي تتصرف وكأنّها هي «الناطق باسم المجتمع المدني».
إنّ هذه المنظمات «غير الحكومية» لا اتصال لها بالجماهير وبالحركات الاجتماعية وبالمنظمات الشعبية، وهي تخدم فقط هدف تشتيت تشكيل حركات اجتماعية حقيقية ضدّ النظام العالمي. وهي تعتمد بشدّة في تمويلها على الأموال العامّة، التي يسمح النظام بمنحها لها، وعلى هبات القطاع الخاص من أمثال: فورد وروكفيلر ومكارثي...الخ.
تحتاج آليّة «صناعة المعارضة» إلى بيئة احتياليّة، إنّها العمليّة التي يتمّ فيها ليّ ذراع الأفراد المسؤولين عن هذه المنظمات التقدمية، ومن ضمنها «ائتلاف مناهضة الحرب» وحركات الحفاظ على البيئة التي تأخذ تمويلها من عمالقة النفط.
لطالما كان هدف نخب الشركات أن يمزقوا الحركات الشعبية إلى خليط من «قم بالأمر لوحدك». فلم تعد بعدها العولمة والحرب هي القضايا الرئيسّة لدى ناشطي المجتمع المدني، الذين باتت نشاطاتهم ودعواتهم مفتتة. لم يعد هنالك حركة مناهضة حرب متكاملة، ولم يعد أحد منهم يرى ارتباطاً بين الحروب التي تقودها الولايات المتحدة والأزمة الاقتصادية.
البديل المدعوم شعبياً
إنّ المطلوب منّا في النهاية، كي نكسر «المعارضة المسيطر عليها»، هو: تطوير شبكة ذات قواعد شعبية، تسعى لتعطيل سلطة صناعة القرار المتعلقة بكلٍ من الحرب وأجندة السياسات النيوليبرالية. فالحروب التي تقوم بها الولايات المتحدة، هي من أجل دعم هذه الأجندة. يجب إنشاء هذه الشبكة على جميع المستويات: المجتمع والمدن والبلدات وأماكن العمل ودور العبادة والنقابات ومنظمات المزارعين ورابطات الأساتذة ونقابات الطلاب ...الخ، على كلا المستويين المحلي والدولي. والمهمّة الأولى التي يجب على هذه الشبكة الاضطلاع بها، هي: إيقاف برامج الحرب، عبر شنّ حملات فعّالة ضدّ الإعلام المروج لها. يجب تحدي وسائل إعلام الشركات عبر مقاطعة مصادر أخبارها وقنواتها. وسيتطلب هذا المسعى عملية موازية على مستوى القواعد الشعبية، عبر حشد وتثقيف المواطنين بطبيعة الحرب، وجذور الأزمة الاقتصادية العالميّة، وكذلك عبر النشر الفاعل للأخبار الحقيقية باستخدام مصادر إعلام بديلة عبر الإنترنت ...الخ.